ثلاثة أسباب لانتكاسة الانتقال الديمقراطي في تونس !؟
بقلم / د.خالد شوكات*
ما يزال مبكِرا نسبيا البحث عن الأسباب التي قادت إلى انتكاسة مسار الانتقال الديمقراطي في تونس، على الأقل، لأن أحدا لا يستطيع أن يجزم إلى حد الآن ما إذا كان هذا الحدث سيكون مؤقتا بإغلاق قوس الاستثناء الذي فتحه الرئيس سعيّد والعودة بالتالي إلى إطار الشرعية الدستورية الذي تم الخروج عليه، أم أن قوس الانتقال الديمقراطي هو الذي سيغلق إلى الأبد، وان تونس ستسير قدما في طريقها إلى تطبيع أمرها مع السائد في المجال العربي الذي شذّت عنه منذ عشر سنوات، وإنها استعادت عضويتها من جديد في نادي الأنظمة العربية الفردية المطلقة..
لكنَّ هذا الواقع التونسي المجهول والغامض، لن يمنع المهتم من الخوض في أسباب الانتكاس ولو بشكل تقديمي، حتى تتضح الأحوال أكثر في مستقبل الأعوام، فنكون ساعتها أقدر على الجزم بالدوافع الفعلية وتحميل المسؤوليات الأخلاقية والسياسية.
وقبل الاسترسال في تعداد الأسباب لا بد من الإشارة في هذا السياق إلى مسألتين ذات علاقة، الأولى العامل الإقليمي والدولي ومقدار مساهمته في وضع المخططات وتوفير المعدات للانقضاض علو الديمقراطية الناشئة، والثانية موقع الرئيس سعيّد في الوصول بأزمة البلاد إلى ذروتها وتهيئة المناخ الملائم للقيام بالعملية وما إذا كان الرجل يحمل مخططا قديما أم أن الآمر لا يخرج أن دائرة التفاعل مع المستجدات ومسايرة لعبة الاشتباك مع المؤسسات والأطراف السياسية الفاعلة في المشهد الوطني، فكلا المسألتين يستحقان إفراد مساحة تحليلية خاصة، وهنا التقدير أن الأنسب هو التوقّف عند الأسباب الداخلية المباشرة دون غيرها، فهي الأصل وسواها محسّنات أو متممات استغلت الحال للإعلان عن نفسها ولعب دورها.
ثمّةَ ثلاثة عوامل تضافرت تأثيراتها السلبية لتُوَفِّرَ مناخ الانقلاب على الشرعية الدستورية الناتجة عن دستور 26 جانفي 2014، وإيقاف مسار الانتقال الديمقراطي، هي كما يلي:
1- ضعف المنظومة الحزبية
إن أهم أدوات الديمقراطية النيابية أو التمثيلية، هي منظومة الأحزاب السياسية، وواقع الحال إن الأحزاب السياسية هي أهم وسائل البناء وأدواته، ولهذا بدا حال الانتقال الديمقراطي في تونس شديد الغرابة والصعوبة، فالديمقراطية الناشئة هي مشروع بناء كان عليه أن يقوم في ذات وقت البناء بصناعة أدوات البناء. لقد كان ذلك أمراً مفارقا حقاًّ.
لقد قامت المنظومة الحزبية المسئولة الأولى عن الانتقال الديمقراطي منذ 2011، على أحزاب إيديولوجية موروثة من زمن معارضة نظام الرئيس بن علي، نشأت غالبيتها في أجواء السرية والملاحقات الأمنية، وما يعنيه ذلك من عجز على إنتاج مؤسسات فاعلة وبرامج تنموية قوية، وأحزاب جديدة لم تتوفر على الإمكانيات الضرورية والموارد الكافية لتطوير نفسها وتعبئة الموارد المادية والبشرية للاضطلاع بواجباتها السياسية وبناء قياداتها وكفاءاتها، وعلى الرغم من انتصار بعضها في الانتخابات، فان ضعف قيادتها وهشاشة مؤسساتها ومحدودية خبرتها، كل ذلك أفضى إلى فشلها وانقسامها وانعكاس كل ذلك سلبا على موقف الرأي العام منها ونفوره الكبير من مؤسسات الحكم التي يشارك فيها، خصوصا منها البرلمان الذي أصبح العنوان الأكبر لازمة النظام الديمقراطي في عيون المواطنين.
إن غياب أي دعم للدولة للمنظومة الحزبية، فضلا عن طغيان الإيديولوجي جراء العقل السياسي الفاسد (تجدد الصراع العلماني الإسلامي نموذجا)، بالإضافة إلى دور وسائل الإعلام الترذيلي، واختراق اللوبيات وأصحاب المصالح للمشهد الحزبي، خصوصا من البوابة الانتخابية، إلى جانب ضعف التثقيف السياسي وهشاشة التقاليد الديمقراطية، وأخيرا تسليم القيادة غالبا لشخصيات غير مؤمنة بالانتقال الديمقراطي، جميعها حوّل المنظومة الحزبية إلى عامل تخريب أساسي وسبب رئيسي في ضرب التجربة الديمقراطية في زمن قياسي بالمعنى التاريخي، فعشر سنوات هي “لا شيء” من منظور التاريخ ولكنها زمن طويل للمواطنين الذين انتظروا من الديمقراطية أن تحسن أحوالهم المعيشية وتمكنهم من منوال تنموي جديد أكثر نجاعة وعدالة، فإذا بها تتراجع بمستواهم الحياتي وتخيب آمالهم وانتظاراتهم الاقتصادية والاجتماعية.
2- كارثية حكومة الشاهد
كلّف السيد الحبيب الصيد في جانفي 2015 بتشكيل أول حكومة في زمن الجمهورية الثانية. وهو رجل مخضرم ذو أخلاق عالية ووطنية مجمع عليها، ويجمع في سيرته ذاتية بين خبرة طويلة بدواليب الدولة الوطنية ومؤسساتها، والتزام واضح وصارم بالشرعية الدستورية الجديدة وإطار الانتقال الديمقراطي، وعلى الرغم الضربات الإرهابية الموجعة التي واجهتها تونس خلال العام الأول من عمل هذه الحكومة، إلا أن وتيرة الأداء الحكومي كانت في تحسن مستمر، وكانت مؤشرات ذلك تنبئ بالنجاح على أكثر من صعيد، حيث جرى استكمال إعادة بناء المؤسستين العسكرية والأمنية على نحو بدا جليا في الانتصار الكبير على الدواعش في ملحمة بنقردان في مارس 2016، كما جرى صياغة المخطط التنموي الخماسي 2016-2020 الذي اعاد البلاد الى منهج التخطيط بعد أن توقفت على اعتماده منذ 2011، واستعادت الدولة هيبتها دون الرجوع إلى الأساليب القمعية الماضية، وتحركت المشاريع الكبرى الراكدة، واستعادت الحكومة التحكم في التوازنات المالية العمومية، وجرى التوقيع على اتفاقية تمويل معقولة مع صندوق النقد الدولي، غير أن كل ذلك سيتوقف بعد مؤامرة سياسية استهدفت حكومة الصيد، لتبدأ لحظةٌ كارثيةٌ ستشكل بداية نهاية مسار الانتقال الديمقراطي.
لقد جاءت الصدفة أو مكر التاريخ بشاب لا ماضي له، دخل السياسة بعد انتصار الثورة، وتسلل إلى محيط الرئيس الباجي قائد السبسي في لحظة غفلة، وعُيِّن على رأس الحكومة بتدبير من أصحاب المصالح الضيقة، وستقود الرجل أطماعه اللامتناهية في تسنُّمِ أعلى منصب في الدولة إلى ارتكاب جميع الحماقات الممكنة في ثلاث سنوات متعاقبة. لقد عاد الرجل إلى الأساليب الملتوية وغير الأخلاقية التي انتهت به في ظرف سنتين إلى التنكر لولي نعمته والانشقاق الحزبي عليه وتسخير ما أمكنه من وسائل الدولة ومواردها لتحقيق حلمه الرئاسي، بالإضافة إلى تمكين شلّة من أصحابه من العبث الحقيقي بموارد الدولة، وتلويث المناخ العام من خلال التلاعب بأكثر القضايا قداسة مثل قضية مكافحة الفساد، ومن حيث كان الشعار الحكومي المرفوع زورا وبهتانا التصدي للمفسدين، جرى التمكين للمفسدين كما لم يمكن لهم من قبل، والنتيجة ان عبّرَ غالبية المواطنين عن غضبهم الشديد، فانتخبوا رئيسا من خارج النخبة السياسية، وانتخبوا برلمانا غريبا هيمنت عليه أصوات المتطرفين من جميع العائلات السياسية، فعمّقَ أزمة تشكيل الحكومة وإفراز أغلبية حاكمة.
3- سوس طلبة التجمع
العامل الثالث الذي ساهم في ضرب التجربة الديمقراطية الناشئة في تونس بعد عشر سنوات من محاولات صمودها، التمكين للجيل الأخير من أبناء الحزب الحاكم السابق التجمع الدستوري الديمقراطي (طلبة وشباب التجمع)، فهذا الجيل الذي كان سببا جرّاء ضعفه الفكري والسياسي وإفلاسه الأخلاقي، إلى انهيار نظام الرئيس بن علي، سيجد نفسه المستفيد الأكبر من شعار المصالحة الوطنية وأجواء التسامح التي وفرتها الديمقراطية، وهو ما سيمكنه من التسرب كالسوس إلى مفاصل النظام الجديد، بل سيحقق من أمانيه وأحلامه وأطماعه ما لم يكن قادراً على تحقيقه في ظل نظامه السابق.
لقد عاث هؤلاء فسادا خلال العقد الأخير، فلم يكتفوا عبر تطبيقهم لمفاهيمهم السياسية المنحرفة (التكمبين) في ارتقاء أعلى مناصب الدولة، بعد إن كانت أحلامهم زمن الرئيس بن علي لا تتجاوز في أقصاها خطة معتمد، حيث أصبحوا وزراء وكتاب دولة ومدراء عامين ورؤساء دواوين وولاة وأعضاء في البرلمان ورؤساء كتل نيابية، وكان أخطر ما أتوه تسخيرهم أنفسهم ليصبحوا وكلاء داخل دواليب الدولة لصالح اللوبيات وأصحاب المصالح الضيقة وعناوين الفساد التي ضجِ منها المواطنون، حتى انتهت في النهاية إلى إلغاء المسار الديمقراطي برمّته واستفراد رئيس الجمهورية بجميع السلطات، ولعلهم هنا ابرز المتضررين من قرارات الرئيس سعيّد، فما لم تفعله الثورة بهم قد يفعله الأخير.