تونس .. سقوط الإسلاميين ومخاوف عودة الاستبداد
بقلم / الدكتور مهدي مبروك
تعيش تونس صيفها في مناخٍ لا يختلف كثيرا عن مناخات بداية تسعينيات القرن الفارط تقريبا. التاريخ لا يعيد نفسه، لكن ذلك قد يحدث في شكل مهزلة. حركة إسلامية محشورة في الزاوية. ومع ذلك، لو تأملنا عمق المشهد لوجدنا اختلافات جوهرية بين اللحظتين. كانت الحركة الإسلامية آنذاك، وهي تساق إلى المسلخة، تحظى بكثير من مشاعر التعاطف والشفقة.
رافقتها مظلوميةٌ كثيفة ستشكل لها رأسمالا رمزيا فيما بعد، يجلب لها كثيرا من تعاطف الناخبين مباشرة بعد الثورة، قبل أن ينفضّ عنها تدريجيا مليون ناخب في أقل من خمس سنوات. كانت “عند المحنة” حركة شابّة متحفزة. ومع ذلك هوت أمام رئيس شاب قادم من مسار مهني عسكري ملتبس، توجه بانقلاب على زعيم عجوز هرم (بورقيبة). لا أحد دافع عنها إلا القليل، فمن يتجرّأ على ذلك يُتهم بالخيانة أو “الخونجة”، وهما تهمتان كافيتان لإلقائه في غياهب السجون. أما الآن، فالأمر يختلف كثيرا، حركة تُزاح من الحكم. يقول خصومها إنها حكمتهم عشر سنوات، ولم يروا من حكمها سوى الجوع والعطش والبطالة والمرض وسوء الخدمات والفساد.
لن يعنينا إثبات هذا الادعاء من عدمه، فسواء حكمت حركة النهضة وحدها، أو مع غيرها، أو لم تحكم أصلا، فإنها تحمّلت وحدها عقد الإخفاق هذا، ودفعت يوم 25 يوليو/ تموز (2021) وحدها الفاتورة باهظة. السياسة ليست مجرّد قيم أو ممارسات، إنما هي أيضا، وقبل كل شيء، إدراكات وتصوّرات. عشرات آلاف التونسيين الذين هلّلوا لقرارات الرئيس قيس سعيد الاستثنائية عبّروا، ولا شك، عن ابتهاجهم بسقوط “النهضة”، فحسب تصريحاتهم في لحظة الانتشاء العارمة، لقد جوّعتهم “النهضة”، بل إنها أصبحت قطيعا للفاسدين.
لا يشكو هؤلاء من بطش “النهضة” أو استباحة حرّياتهم أو التضييق عليهم أبدا. وهذا ما يبرهن أن “النهضة” أخفقت في جعل الحكم للرخاء. وسواء أكان ذلك لغياب الكفاءة أو الحيلة، أو لخذلان حلفائها والتقاء الخصوم عليها، النتيجة واحدة: حركة احتجاجية شعبية أنهت حكمها بعد أقل من سنتين من انتخاباتٍ شرعيةٍ فازت بها.
الجلل فيما حدث أن طيفا واسعا من النخب، لم تعد تعنيه حكاية الحريات والحقوق والديمقراطية “فهذه سخافاتٌ حان وأدها”. تنشط حاليا حملات الكراهية والحقد الذي يتفجّر براميل من أجل الانتقام من هؤلاء، ورميهم خارج هذا الكوكب، من دون احترام للقانون.
نكتشف فجأة أن العيش المشترك بين التونسيين أكذوبة لا تعني شيئا، وأن الاختلاف في الرأي أصبح جريمةً يجب مقاومتها. يتعرّض الأستاذ الجامعي والخبير الأممي في حقوق الإنسان الذي ترأس الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والانتقال الديمقراطي والإصلاح السياسي، عيّاض بن عاشور، إلى هجمة شرسة وتحرّش مهين، لمجرد أنه نعت ما قام به رئيس الجمهورية بالانقلاب، ولم تنج من هجمة مماثلة أخته، أستاذة القانون الدستوري والوجه النسوي المعروف الذي ناهض “النهضة” بشراسة، سناء بن عاشور، وثمة من أخرجها من ملة الحداثيين. كما لم يسلم المناضل اليساري ورئيس حزب العمال، حمّة الهمامي، من الحملة نفسها، لأنه ذهب إلى اعتبار ما جرى انقلابا ستكون مآلاته وخيمة على الجميع، بمن فيهم من يصفّق الآن لقيس سعيّد منتشيا بسقوط الإسلاميين فقط.
حين حكم الإسلاميون أساؤوا التقدير، وتصرّفوا من دون حكمة. وربما لم تسلم ممارساتهم من بعض شبهات الفساد التي يفترض أن يبتّ فيها القضاء العادل والمستقل، وهو أمرٌ غير مضمون في ظل ترؤس رئيس الجمهورية النيابة العامة، وذلك ما لم يحصل في تاريخ تونس الحديث مطلقا.
لا شك أننا في تونس قد عدنا ببلادنا إلى الخلف، هذا إذا سلمنا أن مسار الانتقال الديمقراطي خطّي الوجهة؟ والحال أنه في حالات كثيرة هناك مسارات متشابكة ومعقدة وملتوية، ولكن الأرجح أن تونس بعيدة تماما عن روح 14 جانفي (يناير) 2011 بأشواط طويلة. ثمّة مناخ من الخوف والضغينة والتحريض على رياضة الصيد البشري خارج الحد الأدنى من القيم الحقوقية والديمقراطية.
ولا شك أن تونس، بعد 25 يوليو/تموز 2021، فقدت عدة مسائل، كنا نحن التونسيين نتوهم أنها راسخة: مدنيّة الدولة، علوية القانون، حياد المؤسسة العسكرية والأمن الجمهوري، وكثير من الحريات في مجال الرأي. لا تتولّى السلطة فعل ذلك بمفردها، بل يتولّى “الشعب” هذه المرّة المهمة. إنه يطلب مزيدا من التشدّد وعدم التسامح واستبعاد الحوار نهائيا، حتى أصبحت حكاية الحقوق والحريات مسخرةً يتم التندّر بها.
لست خائفا على بلدي، ولكني حزين لأننا عدنا إلى المربع الأول: النضال من أجل الحرية مجدّدا، غير أن الرسالة النبيلة ستكون، هذه المرّة، أعسر، بعد أن “كفر” بها الجميع، بمن فيهم عديدون ممن ارتزقوا منها خلال عشرية الانتقال الديمقراطي هذا: مستشارين ومختصين وخبراء.. إلخ ومدرّبي تنمية بشرية وجيش من المنظمات.. إلخ، فحتى بعض من هؤلاء تنكّروا لها.
تنسيقيات الرئيس التي ساندته في أثناء حملته الانتخابية، وقد انضاف إليها، أخيرا، المجلس الأعلى للشباب، هي القوة البشرية التي كانت، إلى حد كبير وراء تحرّكات 25 جويلية (يوليو)، حسب بياناتها وشعاراتها، وقد تتحوّل قريبا إلى ما يشبه “اللجان الثورية” أو الحشد الشعبي الذي توكل إليه مهمة تنفيذ ما يريده الشعب.
يقيني راسخ أن بلادي تستحق الأفضل، وأنها ستستعيد، ولو بعد حين، توقها إلى الحرية خارج عبادة الزعيم الأوحد الذي يحتكر كل السلطات، بل وحتى تأويل الدستور والأحلام. .. الشعبوية لا تداوي علل الديمقراطية، بل تحوّلها إلى استبدادٍ خانق.