قصة 6 ساعات تحت الأنقاض… أحد الناجٍين من القصف الصهيوني على غزّة يروي
تونس ــ الرأي الجديد
“حاولتُ أن أحتفظ بصوتي، على أمل أن يأتي أحد ينادي على الأحياء تحت الأنقاض، فأصرخ أنني حيّ، لكن حين تحقّق ذلك وسمعت أحدهم ينادي :”هل من أحد حيّ؟” وصرخت حينها “أنا.. أنا حيّ”.. لم يُسمَع صوتي..”.
لقد ابتلعته الأسقف وأعمدة الباطون المهدومة فوق جسده، خطفت صوتَه الظلمةُ قبل أن يصل لمسامع الأحياء خارج الأنقاض.
أبو يحيا اشكنتنا (42 عامًا)، نجا من مجزرة شارع “الوحدة بمدينة غزة التي اقترفها الاحتلال الصهيوني بحق الغزيين، بعد أن قضَى قرابة الست ساعات تحت الأنقاض.
يروي حكايته التي تلاحق مخيلته أينما ذهب وفكّر: “كان الوضع متوترًا في القطاع لكنه آمنًا في حيّنا كالعادة، نام أطفالي بملابس العيد، ورفضتُ أن أترك زوجتي توقظهم لتبديلها فلم أُرِد إزعاجهم، حتى انتصف الليل وأنا أجلس أمام شاشة التلفاز أراقب الأخبار”.
ويقول: “سمعت صوت قصفٍ شديدٍ للغاية توهّجت معه جداران البيت كلّها، حيث أسكن في الطابق الثالث، ثم اهتزّت من تحت أقدامي الأرضُ اهتزازًا عنيفًا، والقصف لا يتوقّف، وتحركت الجدران وتمايلت، فهرعت للغرفة التي ينام فيها أطفالي الثلاثة، ليسقط سقف الغرفة فوقهم أمام عينيّ، وتنقطع الكهرباء وتسقط الأسقف كلها من فوقي وتحتي، ثم تسقط وتسقط وتسقط لأصبح تحت الأنقاض”..
أبو يحيا اشكنتنا الناجي من تحت الأنقاض رفقة ابنته
انهار البيت وصار ركامًا في ثوانٍ قليلة، يضيف: “انهار فوقنا في مشهدٍ لم أتخيله يومًا في حياتي، أصبحت تحت الأنقاض، لم أكن ممددًا إنما جالسًا باعوجاج وعمودي الفقري غير مستقيم، إنما مُنْحَنٍ لليمين، فيما يتربع فوق رجلي اليمنى عمود البيت الضخم، وفوق ذراعي اليمنى نصف عمود مثبّت بالسّقف الذي يعلو رأسي ويجعله منخفضًا”.
لا بصيص نور
السواد كان حالكًا تحت الأنقاض، فلم يكن حول أبي يحيا أي بصيص نور، غير نور الله الذي استقاه من قراءة الآيات القرآنية التي يحفظها، سكون الموت يطوفُ حوله، وصمت القبور يتملّكه حتى سمع صوت صغيره ذي العامين والنصف ينادي بوضوح: بابا.. ويصمت لبضع ثوانٍ ثم ينادي من جديد : بابا.. بابا”، ثلاث مرات نادى آخر العنقود على والدِه ثم اختفى الصّوت للأبد.
يعبر أبو يحيا: “كانت مشاعري تنتحب أمام ما يجري لفلذة كبدي، لكنني لم أملك قوةً لأن أردّ عليه أو أواسيه في محنته، ثم أيقنت أنه استُشهِد، باختفاء الصوت”، ثم نادت ابنته دانا بصوت مخنوق:” بابا.. بابا..” واختفى صوتُها هي الأخرى تمامًا.
مرّت ساعةٌ تتلوها ساعة أخرى، فإذ بصوتٍ ينادي إن كان أحدٌ ما يزال حيًا تحت الأنقاض، صرخ أبو يحيا بأنه حي.. حيّ، لكن صوت المنادي اختفى هو الآخر، واختفى معه كثير من الأمل، كل الأصوات من حوله تختفي إلا صوت بداخله كان يقول له: “اصبر، فللصابرين ثواب عظيم”، فحاول الصّبر من جديد بالاستمرار في قراءة القرآن في سرّه، لكنه بين السورة والأخرى، يسترجع شريط حياته مع أطفاله في أكثر البيوت استقرارًا، ذلك الذي بات ركامًا فوقهم.
مع انبلاج الفجر
اقترب الفجر ومعه بدأ يقترب صوتٍ مُنادٍ جديد: “هل من أحدٍ حيّ”، هنا استجمع أبو يحيا طاقته وصوته المخنوق وردّ بأنه حيّ، فسُمِع صوتُه وبدأ رجال الدفاع المدني بالنبش، حتى حدّدوا مكانَه وقاموا بنبش فتحةٍ صغيرةٍ بين الرّدم ليتسلل إليه نور الفجر ويتمكّن من إخراج إصبعيه، ويسمع هتافات الناس وتكبيرهم بأنْ عثروا على ناجٍ جديد.
مرّت ساعتان تقريبًا حتى تمكّنوا من إخراجه حيًا، فكان جسدُه مُتَيبِّسًا، أما يدّه ورِجله التي ظنّ أنهما بُتِرَتا حيث لم يكن يشعر بهما بفعل ثقل عموديّ الباطون فوقهما، فما تزالان بخير، لكن جزءً من إصبع يده تعرّض للبتر.
ويضيف: “خرجتُ أرفع شارة النصر بإصبعيّ، نعم إننا منصورون رغم جراحِنا وآلامنا وفقْدنا لأزواجنا وفلذات قلوبنا وأكبادِنا، إننا منصورون بكرامتنا وصواريخ مقاومتنا التي تُجبر المستوطنين المحتلين على الهروب في الملاجئ، والاختباء لأيام طويلة رغم أن صواريخ مقاومتنا لا تقارن بقوتها وحجم تدميرها قوة الصاروخ الصهيوني، إننا منصورون لانتصارنا للمسجد الأقصى وحي الشيخ جراح، والقدس الحزينة، العاصمة الفلسطينية المُحتلة”.
أبو يحيا استطاع أن يُعبّر عن جزء من مشاعره التي قضاها تحت الأنقاض، لكن صغيرته “سوزي” ذات الثمان سنوات، الوحيدة التي ما تزال حية من أسرته لم تستطع التعبير أبدًا، إنها صامتة، صامتة صمت الركام الذي غطَّاها لأكثر من (6) ساعات هي الأخرى، إنها تعاني من أعراض ما بعد الصدمة.
المصدر: جريدة “الشرق” القطرية