نظريات “الربيع العربي”
بقلم / د.خالد شوكات
باقترابنا من موعد 14 جانفي / يناير 2021، موعد مغادرة الرئيس زين العابدين بن علي إلى المملكة العربية السعودية، معلنا بذلك عن سقوط نظامه وتساقط أنظمة عربية كثيرة من بعده خلال أشهر وجيزة لاحقة، تتجدد مناسبة استحضار ذات السؤال الكبير، ما الذي جرى حينها، وهل كان الحدث ثورة شعبية أم مؤامرة خارجية، وهل ثمّةَ مستفيد حقّا مما وقع وما يزال يقع طيلة العشرية الماضية؟
لا شكّ أن “النظرية” مريحة لأصحابها، فعندما تقول مثلا أن “الربيع العربي” كان مؤامرة، وأن هذه الثورات التي أطاحت بعروش وأسقطت أنظمة استبدادية، لم تكن ثورات إنما هي مؤامرات تم التخطيط لها من قبل المخابرات الأمريكية، بالتعاون مع حركة الإخوان المسلمين وفروعها في المنطقة، وبالشراكة مع بعض الأنظمة الخليجية، وأن ما جرى بدأ التخطيط له منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي، وان الأمر يندرج أيضا في إطار نظرية الفوضى الخلافة التي تحدّثتْ عنها كوندليزا رايس حينها، وأنه يهدف إلى خلق شرق أوسط جديد مستعد للقبول بإسرائيل كياناً طبيعيا في المنطقة، فان هذه النظرية قد تبدو في عيون المتحمسين لها، مكتملة النصاب، مقنعة لما ينشد الحقيقة ولا يتجاهل النتائج الواقعية الظاهرة، التي حوّلت المجال العربي إلى أكثر المناطق بؤساً في العالم بأسره..
ذلك أنه مجال الحروب الأهلية والفتن الداخلية، وانهيار الدول والمرافق العمومية، ومصدر الإرهاب والقلاقل، وأفواج المهاجرين غير الشرعية، وضبابية الرؤية المستقبلية.
في مقابل نظرية “المؤامرة” أو “الشتاء العبري”، كما يحبّ البعض أن يوصّف الحالة، ما تزال عديد الأطراف مؤمنة بنظرية “الثورة”، مدافعة عن “الربيع العربي”، مؤكدة أن انتفاضات الشعوب العربية ضد أنظمتها الاستبدادية، كانت انتفاضات حقيقية، يمكن توصيفها باعتبارها جيلا جديدا من الثورات الشعبية، ثورات غير تقليدية بلا قيادة واضحة، أو برنامج محدد سلفا، استفادت من المتغيرات الكبرى التي أنتجتها تكنولوجيات الإعلام والتواصل العصرية، ومن أهمها قنوات التلفزيون المعولمة، وشبكة الانترنت ووسائل التواصل، مثل فيسبوك وتويتر وغيرها، وأن الثورات المضادة ومراكز الردة المحلّية والإقليمية والدولية، هي من أفسد مسارات الثورة وخربها، وحال دون نجاح الكثير منها، ويؤكد أهل هذه الرؤية، على أن مسارات الثورات في التاريخ، طويل، وأن الأمر قد يمتد إلى قرون من الزمان، قياسا بالثورة الفرنسية وسواها من الثورات الكلاسيكية، وأن الثورات حدث تقدّمي في التاريخ، قد يشهد انكسارات مؤقتة لكنّهُ سينتصر في نهاية الأمر.
وبين هاتين النظريتين، تطرح نظريات أخرى تحاول أن تبني لها سرديات أقل تماسكا من حيث بنيتها التنظيرية، ولكنها ربما تظهر أكثر واقعية، ففي نهاية الأمر تبدو نظرية المؤامرة وهنة وضعيفة في أكثر من جدارِ وناحية، خصوصا إذا حملت الشيء ونقيضه، فأكثر المتحمّسين مثلاً لهذه النظرية في سياق خصومة شديدة مع جماعة الإخوان المسلمين وحلفائها، يظهر في الوقت ذاته أبرز المتحمّسين للتطبيع مع إسرائيل، تماما كما تبدو نظرية “الثورة” أيضا ضعيفة في مواطن عدة، لعلَّ أهمها التهوين من دور العامل الخارجي والطمع الدولي في ثروات المنطقة، وانخراط بعض المحسوبين على التيارات الثورية في سياق سعي محموم للوصول إلى السلطة، عن وعي أو قلة وعي، في أجندات إقليمية ودولية مشبوهة، هدفها تسخير المتغيرات التي أنتجتها حركة الربيع العربي، لتحقيق أهداف استراتيجية معادية لمصالح الأمة العربية، ومزعزعة لثوابتها، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية العادلة.
وفي خضم هذه النظريات المتناقضة، ثمّةَ ملاحظات من الضروري عدم تجاهلها في بناء أي رؤية تحليلية لما حدث خلال هذه العشرية، التي تبدو في واقعها الأكثر مأساوية في التاريخ العربي الحديث والمعاصر، ولكنها الأكثر أهمية وخطورة أيضا، أوّلها أن الدولة الوطنية العربية الناتجة عن سايكس بيكو لم تكن يوما دولة مقنعة لشعوبها، وثانيها أن جيل الأنظمة السياسية الذي أطاحت به ثورات الربيع العربي (أنظمة بن علي ومبارك وصالح والقذافي وحتى صدام حسين)، لم يكن قادراً على الاستمرار بالمعنى التاريخي للكلمة، وثالثها أن للمتغيرات العلمية والتكنولوجية وثورة الاتصال الرقمي، لا بد لها من تأثيرات بحجمها على الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وحتى في صياغة العلاقات الدولية، ورابعها، أن المعادلة الإقليمية والدولية، ليست بدورها ثابتة، وأن مواقف القوى الخارجية ذات الصلة، لم تكن يوما متجانسة أو موحدة، وخامسها، أن التاريخ بقدر ما يستجيب لنظريات القراءة والفهم والتحليل، بقدر ما يقبل ظواهر المكر والرِّدة والتعطيل والانكسار، ولهذا يبدو غالبا مستعصيا على الفهم، مثيرا للحيرة..
وبين نظريات الربيع العربي هذه، لا يجادل أحد، في أن حاضر العرب بائس، لكن التشبث بالأمل في أن يكون المستقبل المشرق ممكنا، لا يجب أن ينقطع أبدا، لأن ضوءا في آخر النفق يلمح، ولأن في قلب كل محنة، منحة غالبا، ولأن العرب أمة عظيمة، ذات رسالة خالدة.