في الذكرى العاشرة للثورة: الانتقال التونسي بين “الفاست تغيير”… وإرباك “الداخل الخارجي”.. وعقلانية “المشترك الوطني”
بقلم / صالح عطية
اليوم، السابع عشر من ديسمبر 2020، ذكرى اندلاع أول احتجاجات اجتماعية وشعبية في تاريخ تونس، عصفت بنظام قائم مستبدّ، جثم على قلوب التونسيين نحو 23 عاما، أراهم فيها شتى أنواع الحيف الاجتماعي، والاستبداد السياسي، وكذبة “المعجزة الاقتصادية التونسية”، والتصحر الثقافي والفكري، وتهاوي علاقات تونس الخارجية، التي حولها ذلك النظام، إلى علاقات ماركنتيلية، وزبونية، رغم كل ما يقال عن “الدبلوماسية التونسية النشيطة” و”الوطنية”، وغير ذلك من الدعاية الإعلامية والاتصالية الفجّة، والتي رسخ المحتجون والمتظاهرون من شباب تونس، تهافتها وهشاشتها..
سقط شهداء انطلاقا من هذا اليوم (إلى حدود يوم 14 جانفي 2011)، لا نعرف بعد عشر سنوات على الثورة، القائمة النهائية بصددهم، ولا حتى قائمة الجرحى، الذين ما يزال أغلبهم يعاني من إصابات، وبعضهم لم يعد يقدر على المشي أو الحركة، في صمت وأعين مغمضة من الحكومات المتعاقبة، تلك التي تبنت مقولات الثورة، أو أولئك الذين اختاروا الوقوف ضدّها، سواء من “المنظومة القديمة”، أو من “المعارضة القديمة”، أو من “الثوار الجدد”، و”المعارضة الوليدة”..
يعكس موضوع الشهداء، تمظهرات الأداء السياسي للحكومة والمعارضة على امتداد عشر سنوات كاملة.. فعلى الرغم من أنّ هؤلاء هم من ساهموا بدمائهم وأبدانهم، في توفير مناخات الحرية والممارسة السياسية المفتوحة، والحياة الديمقراطية في البلاد، بما جعل أصوات السياسيين الأعلى خلال هذه الفترة، والأكثر استفادة، من حيث التموقع السياسي، وتغيّر وضعهم المالي، وارتفاع منسوب علاقاتهم الخارجية والتحالفية الواسعة، إلا أنهم خرجوا أكبر الخاسرين، وسط نسيان، أو تناسي الطبقة السياسية بيمينها ويسارها وليبرالييها، لاستحقاقات هؤلاء “الضحايا”، التي باتت الأصوات المدافعة عنهم، قليلة، إن لم نقل محدودة ومحتشمة ومغيبة سياسيا وإعلاميا، وحتى إذا ما تم التحدث عنهم، أو تناول قضيتهم، فإنّ ذلك يتم بتوظيف سياسي لا غبار عليه..
لكنّ قصة الشهداء ومصابي الثورة، ليست الوحيدة، التي خرجت خاسرة بعد عقد من الثورة التونسية، فقد كتبت قصص أخرى أكثر خطورة، وأشدّ وطئا على المشهد التونسي، وعلى الدولة التونسية، وعلى ما يعرف بتجربة “الانتقال الديمقراطي” في تونس..
منوال اقتصادي.. بديل “للتسول الاقتصادي”
القصة الأبرز التي باتت تقضّ مضجع الجميع، هي هذا المصعد الاجتماعي، الذي تهاوى إلى درجات سفلى إن لم نقل الأسفل..
فلم تتحسن ظروف عيش المواطنين، الذين خرجوا في ديسمبر 2010، من أجل استرداد كرامتهم، وتعديل بوصلة سوق العمل باتجاه أن تتوفر لهم مصادر الرزق، وأن تكون لهم حياة جديدة، تليق بهم كمواطنين، وليس كرعايا، وظلت هذه الظروف، رغم كل الأموال التي رصدت في الداخل، ومن الخارج، دون أيّ تغيير، بل هي تدحرجت إلى قاع سحيق، وباتت مظاهر الشحاذة والفقر و”برباشة المزابل”، هي المظهر المهيمن على الحياة الاجتماعية والاقتصادية في البلاد.
هيكليا، انتفت الطبقة الوسطى، التي كانت حامية للنسيج الاجتماعي، ولفئة الفقراء، وأضحت بدورها جزءا من دائرة الفقر الجديدة، المتسعة إلى مستويات متدنية، تهدد العمود الفقري للمجتمع وهيكلة الطبقات الاجتماعية، بما يجعل مهمة الدولة، معقّدة، وشديدة الحساسية.
ليس هذا وحسب، بل إنّ هذا النسيج الاجتماعي، الواسع عدديا، أصيب بنوع من الإحباط واليأس، وتولّد عن ذلك، استقالة عن دائرة العمل، التي تعدّ أحد أهم محددات خلق الثروة، وتوفير فرص العمل، وتطوير النسيج الاقتصادي، بما يجعله مستوعبا للفئات والطبقات، وموجات العمل المطلوبة، التي ورثتها الثورة من تراكمات النظام المخلوع، أو تلك التي ولدت من أرحام “الهتك المتواصل” لاقتصاد البلاد، وللمالية العمومية، بسبب الفساد الذي ينخر مؤسسات الدولة، ولكن أيضا بسبب سوء التقدير، وسوء التصرف، والإدارة البطيئة، والإرادة المترددة والمرتعشة.
كانت تونس، الخارجة من ثورة شعبية، تتوق للدخول ضمن بلدان الاقتصاديات الصاعدة، ولكنها تجد نفسها بعد عقد من الزمن، في فوهة وضع اقتصادي، هو الأخطر في تاريخ البلاد، وهو الأكثر تعبيرا عن عجز الطبقة السياسية الخارجة من قمقم “الثورة”، عن إنتاج نموذج اقتصادي جديد، أو بديل لذلك المنوال الاقتصادي، الذي تسبب لعقود، منذ بداية الحديث عن “الدولة الوطنية”، في اعتماد تونس، “التسول الاقتصادي”، من الكيانات الإقليمية والمؤسسات المالية الدولية، بما جعلها اليوم الأكثر اختناقا، والأكثر عجزا عن إفراز وضع اقتصادي قادر على تلبية مطالب الناس التي خرجت اليوم إلى شوارع العاصمة والولايات، للمطالبة، ليس بحقها في التنمية والعيش الكريم فحسب، وإنما أيضا وأساسا، لتغيير بوصلة الحكم الراهن، باتجاه تحوّله إلى حكم يعكس هموم الناس، وليس هموم النخبة وصراعاتها وحساباتها وخلافاتها ومناكفاتها السياسية والإيديولوجية، التي يعتقد كثير من المراقبين، أنها اتسعت زمنيا، وباتت مؤثرة سلبيا على مسارات الثورة والإصلاح الاقتصادي، والتطور الاجتماعي..
ريش الفساد عندما لا تنفضه الدولة
زخم الفشل الاقتصادي، الذي ظهر في تونس خلال السنوات العشر الماضية، يتبعه بالضرورة، أو هو يرتبط به، منسوب الفساد الذي ينخر الدولة ومؤسساتها، والرعيل الجديد في الحكم.. أضحت الدولة عنوانا لفساد مستشر، تراه الحكومة رأي العين، وتقرأ تقارير عنه بانتظام، لكنّها لا تفعل شيئا على صعيد محاربته..
لماذا ؟؟
لأنّ الفساد بات جزءا من الوضع السياسي والاقتصادي، بل هو أخطبوط متغلغل صلب القوانين والمؤسسات والأفراد والتراتيب الإدارية، بل حتى صلب الهيئات التي تعنى بمكافحة الفساد ذاتها، التي تبدو خطواتها وإجراءاتها، أثقل من مشية الفيلة، ومن دبيب النمل، وهي ليست بتلك الصرامة والصراحة والوضوح، التي يتطلبها ملف الفساد..
يدرك الحاكمون اليوم، أنّ مؤشرات الفساد عالية، وهي أعلى من مؤشرات التنمية، ولكنهم يدركون أيضا، أنّ مكافحة الفساد، مدخل أساسي للتصحيح الاقتصادي، ولحصاد أرقام إضافية في نسبة النمو التي بلغت مستوى أقل بكثير من الصفر حاليا، غير أنّ التردد، والارتباك، وقراءة حساب لقوى السوق، وموازين “البارونات” المالية والاقتصادية، الفاسدة في أغلبها، حال دون إقدام الدولة، والحكومات المتعاقبة، على مواجهة هذا “الفيروس” الذي يهدد الثقة في الحكم، وفي مصداقية الدولة ومؤسساتها وجهودها..
وعندما يكون رأس الحكومة، مشتبه بالفساد، على غرار ما حصل مع إلياس الفخفاخ، تكون الطامة الكبرى، التي تزداد خطورة، عندما لا يحاسب الرجل، ويظل ينعم بالحرية، بعد أن تحدثت تقارير الدولة، عن تورطه في الفساد، تورطا، لن تفعل تصريحات محمد عبو، وزيره السابق، شيئا في الدفاع عنه، أو التقليل من حجم فساده في الدولة..
كانت تونس تتوفر على 20 عائلة فاسدة، وباتت اليوم تتوفر على أكثر من 40 عائلة ترعى الفساد وتنشطه، وتتحكم في ثروات التونسيين، ومقدرات الدولة، وفقا لما صرح به السفير الأوروبي السابق في تقرير رسمي للدولة التونسية.
لذلك، فإنّ صمت الحكومة على الفساد، وترددها إزاء مكافحته ومحاربته، على غرار ما فعلت دول كثيرة، مثل أندونيسيا وماليزيا وسنغافورة وأوكرانيا وغيرها، سيجعل فترة استمرارها في قيادة البلاد، محدودة، وبلا أفق، ومن دون أيّ منجز اقتصادي أو اجتماعي أو سياسي..
من إرباك الخارج… إلى إرباك “الداخل الخارجي”
القصة الثالثة، التي تنسج خيوطها سنوات الثورة العشر، تخص الملف السياسي، الذي يتأرجح بين عدّة مستويات من التقلب، بشكل بات يهدد استقرار الدولة، وربما كيانها، بعيدا عن تهويل “الصناعات المؤدلجة”، أو “مطابخ” الأجندات الإقليمية والدولية، المتعودة على وهم الانقلابات، ومحاولات تحويل الدول إلى “حدائق خلفية”، لطروحات إقليمية، تتعالى منها روائح “عفن البترودولار”، وحروب “الهويات القاتلة”، وإعادة تشكيل المنطقة، وفقا لحسابات، أصلها في “دول الاستعمار القديم”، وفرعها هنا وهناك، بين خليج متعفن، وبلدان شرق أوسطية، بأدوار وظيفية واضحة لا غبار عليها..
اللافت في هذه “الطموحات الإقليمية”، أنّ لاعبيها ومحركيها، أفرغ من فؤاد أم موسى، وأضعف الحلقات السياسية إقليميا ودوليا، ورغم ذلك، ترتمي في أحضانها جزء من النخب التونسية، التي تدفع اليوم باتجاه “انقلابات واهمة”، عبر ما يسمى
بــ “الكتلة الشعبية”، و”أحزاب الرئيس”، و”القوى الديمقراطية”، التي يقطر خطابها، ارتباكا إزاء المنظومة الديمقراطية، من خلال محاولات الارتداد على المؤسسات الدستورية، والعمل على ترذيلها، وإسقاطها من الحساب الديمقراطي، في نوع من “المراهقة السياسية”، واللهث خلف أهداف مدفوعة الأجر السياسي، تفوح منها رائحة التموقع السياسي، بإرادة خارجية، بعد أن فشلت هذه الأحزاب والفعاليات، في الظفر بثقة الناخبين، فيما فشل آخرون في التأثير في الوضع الجديد، عبر الآليات الديمقراطية، وبالاحتكام إلى اللعبة السياسية، واختاروا اللعب بأدوات من خارج السياق الديمقراطي، تهدف إلى الإطاحة بالمنظومة القائمة، بعناوين “دستورية” مقلوبة، و”مخرجات ديمقراطية” مزعومة، جرى ترتيبها في دوائر القرار الإقليمي، الأكثر تعبيرا عن رفض التحولات الكبيرة التي تعيشها تونس، رغم كل الصعوبات السياسية والاقتصادية والمالية والاجتماعية..
تعيش تونس منذ العام 2012، على وقع محاولات لم تهدأ، للانقلاب على “الثورة”، ومخرجاتها، ورغم الفشل الذريع لهذه المحاولات، ما يزال جزء من النخب السياسية، تتوكأ على “الدعم الخارجي”، تحت عناوين “نهاية الإسلام السياسي”، أو فشل منظومة “الوفاق السياسي” الذي تأسس العام 2013، وتركز أكثر بين سنوات 2014 و2019، بين ما عرف بــ “توافق الشيخين” (المرحوم الباجي قايد السبسي وراشد الغنوشي)، وهو توافق ضعيف وهشّ لم يقدّم شيئا لتونس الداخل، تونس الهامش، أو الالتقاء بين ما تبقى من المنظومة القديمة، وما يتمظهر اليوم من المنظومة الجديدة.
لم تهضم جزء من الطبقة السياسية اليوم، أنّ تونس تغيرت بالفعل، وأنّ مورفولوجيا السلطة والدولة، باتت تمشي بميكانيزمات جديدة، تخضع لدستور 2014، الذي تتعالى أصوات كثيرة من بين أولئك وهؤلاء، لتغييره بصورة جذرية، في مسعى لتغيير أساسات البناء السياسي الراهن، والتأسيس لنظام رئاسي معدّل، كانت أصوات برلمانية، قد بدأت تدشنه بواسطة دعواتها لعدم نقد الرئيس، قيس سعيّد، وإحاطته بحزام سياسي، أبانت الأيام والأسابيع، أنّ الرجل غير مطمئنّ له، لأنه يفكر في نموذج آخر، بعيدا عن نظام الأحزاب، والمنظومة الديمقراطية برمتها، التي يعتبرها قد انتهت وباتت من الماضي..
لقد كشفت الأحداث الأخيرة، الحاصلة في البرلمان، أنّ الصراع ليس على البرامج والبدائل، بقدر ما هو على المواقع، وسط وجود أطراف ملّت ــ على ما يبدو ــ من لعب دور المعارضة، وهي ترغب، إما أن تحكم الدولة، من خلال الائتلاف الحاكم، أو تنقلب عليه، لكي تسرّع بالاستحواذ على المكان الشاغر، بهلاميات سياسية، تحاول استعادة ما حصل في 2012 و2013، بنفس الأدوات والخطاب والأهداف، مع فارق أساسي، غاب عن هؤلاء، وهو اختلاف الظرفية واللاعبين والأوضاع الإقليمية والدولية، وحجم هذه الفعاليات، التي رفضت شعبيا، وهي تحاول اليوم العودة، سواء من خلال توظيف جزء من الحراك الاجتماعي المشروع بكل معنى الكلمة، أو عبر “إعلام متخندق” في “مناحات” إيديولوجية سمجة، تعيدنا إلى مربع ما بعد ولادة (حركة نداء تونس)، قبل نحو سبع سنوات.
لا شك، أنّ المشهد السياسي، بهذه الصراعات المفتعلة، والمخطط لها، وبهذا المستوى من الأداء البرلماني الباهت، لا تضيف شيئا للمشهد الديمقراطي، وهي تستهلك من عمر المجتمع والدولة والأجيال القادمة، لكنها من زاوية ثانية، تشكّل مجالا للفرز السياسي والاجتماعي، وهي تمهد لخارطة انتخابية وسياسية جديدة، سيكون الكثير من الأصوات والوجوه الراهنة، أحد أهم الخاسرين فيها، مثلما خسرت أحزاب أخرى وجبهات وقوى سياسية وفكرية، باتت اليوم على “عتبات المشهد السياسي”، بالكاد، تصدر بيانا للإشارة إلى استمرار وجودها في المشهد.
اللعب على وتر مؤسسات الدولة
تبقى الحكومة الراهنة، حكومة هشام المشيشي، المعنونة بــ “التكنوقراط”، والمسنودة من حزام سياسي، يجسده ثالوث “حركة النهضة” و”قلب تونس” و”ائتلاف الكرامة”، مطالبة اليوم، بأن تغيّر من أسلوب عملها، وطرق أدائها، واتساع رقعة علاقاتها في الداخل، ونسيج علاقاتها الخارجية، واختراق بوابات إقليمية ودولية جديدة، قادرة على مساعدة تونس، على الخروج من أزمتها الحالية، واتخاذ سياسة مكافحة الفساد، رقما مهما في خطابها وممارساتها وخياراتها..
أما الارتهان لنفس العناوين القديمة في السياسة الخارجية، وفي العلاقات الاقتصادية والمالية، من شأنه أن يرهن تونس في “زرداب الفقر”، و”الخصاصة الاقتصادية”، والتداين الخارجي لعقود أخرى، بما يضعف سيادة القرار التونسي، ويفقد الثقة في الدولة نهائيا، وينهي “الحالة الديمقراطية” الراهنة، وقد يعيد البلاد إلى مربع يخيّل إلينا أننا تجاوزناه فكريا وسياسيا وزمنيا أيضا، خصوصا في ظل وجود رئيس للبلاد، لا يبدو على صلة بما يجري فيها، أو بتطلعات شعبها الحقيقية، إلا على صعيد الخطاب، رئيس يستعدي الجميع، وخاصة المؤسسات والأحزاب والنظام السياسي والديمقراطية، وهي كلها مداخل، جاءت به إلى الحكم، فيما الرجل، يحرص على تغييرها، بآليات نجهلها، ولا نعرف مآلاتها..
ومع وجود رئيس للبرلمان، يبدو في حالة “حصار سياسي”، وفي إطار تعاملات برلمانية معه، لا أخلاقية بكل معنى الكلمة، في ظل محاولات، لجعل دوره، أشبه بدور “القيّم العام” في المجلس، دون أي مسؤولية سياسية أو “دبلوماسية برلمانية”، مثلما تقتضيه الأعراف الدولية، حتى في الدول الغارقة في “الاستبداد الجديد”، يكون الهدف، واضحا للعيان، وهو الاستثمار في ترذيل مؤسسات الدولة، وفي الثأر من الثورة ومخرجاتها، في التقاء موضوعي، مع (الحزب الدستوري الحر)، سليل الحزب الذي دمّر الحياة السياسية، وكان سيفا مسلطا على رقاب التونسيين طيلة عقدين من الزمن، على أقلّ تقدير، بل هو التقاء موضوعي، مع أعداء “تونس الجديدة”، التي كتب التونسيون دستورها بملح العين، وبدم الشهداء..
الأوهام والأحلام
تطوي الثورة التونسية اليوم، عشر سنوات من عمرها، وهي في مفترق طرق شديد التعقيد: فإما أن يمضي قطارها متجاوزا المطبات، وعسس الطرقات، والعطول الفنية المفتعلة، أو هو يتعطّل، لتدخل تونس طريق المجهول، الذي قد يدخلنا في فتنة داخلية، لم تنجح أطراف خارجية عديدة، على أن ترسخها في الوضع التونسي، بفضل النخب التونسية الوطنية، التي تحتكم في النهاية للدستور وقوانين البلاد، لحسم خلافاتها، والقفز على جراحاتها الإيديولوجية التي لم تنته إلى الآن.
لقد ضاعت أوهام هذا “الخارج” المتوتر إزاء التجربة التونسية، والحالم باستعادة ماض، طلقه التونسيون إلى الأبد، حتى وإن وجدت أصوات ناعقة، ما تزال تحنّ إليه، أو تدافع عنه بكل الصفاقة الممكنة..
فهل تكون الذكرى العاشرة للثورة التونسية، سياقا زمنيا جديدا للطبقة السياسية، لكي تستفيق من جديد، بعيدا عن منطق الاحتراب الداخلي، وتبحث عن مشتركات لإخراج الأوضاع الراهنة من عنق الزجاجة، أم تختار هذه النخب أسلوب “الفاست تغيير”، لاستبدال وضع، لا يبدو أن خصومهم، سيكتفون بالملاحظة والتفرج عليهم من الشرفات ونوافذ البيوت والوزارات..
وتلك قصة أخرى، من قصص هذه الذكرى العاشرة للثورة، لا يبدو أن البعض هضمها أو استوعبها.. فالساحة ليست حكرا “لعزف منفرد”، هو في الأصل نشاز، ومن خصوصيات النشاز أن صوته عال، لكنّ أنفاسه قصيرة وتأثيره محدود، على نسق السمفونيات الكبرى، التي يهندسها مبدعون… ولا شكّ أنّ الشعوب، سمفونية خالدة، أمام أنواع العزف المنفرد لثلة من المغامرين..