المشيشي: من جزء من السيستام… إلى “سيستام” جديد !!!
بقلم / صالح عطية
بخطاب جديد، ولغة سياسية جديدة، خرج رئيس الحكومة، هشام المشيشي أمس، في الندوة الدورية الثالثة للولاة لسنة 2020، ليقدّم مؤشرات لمقاربة تنموية، تعتمد القاعدة بدل القمة، والجهات بدل المركز، وتولي أهمية لمشاركة المواطنين، قبل الخبراء و”الصنايعية”، وتؤشر لجعل الحلول “منتجا جماعيا”، وليست مجرد قرارات مسقطة، وتحرص على “احتضان” الجهات بتعددها واختلاف همومها، ضمن هذه السردية التنموية..
تحدث المشيشي، عن مقاربة جهوية، قال إنّ “قاطرتها الدولة، ومحورها المواطن، الذي يجب أن تكون له كلمته في التصورات والحلول التنموية لجهته، ولكامل جهات البلاد”.
وأعلن رئيس الحكومة، عن “تركيز فرق عمل، تساهم فيها كل الوزارات، وتكون فيها تمثيلية فعلية للجهات بطريقة تشاركية، تضمن حسن الإعداد وفاعلية الانجاز”.
ليس هذا فقط، بل إنّ فرق العمل هذه، ستعمل على “دفع المشاريع بالجهات، وتذليل معوقات إنجازها، ورفع التعطيلات التي حالت دون تقدمها أو إنجازها”، عبر الشراكة مع مختلف الأطراف على المستوى الجهوي، وذلك في إطار “التكامل والاندماج مع بقية الجهات”، تكريسا لمبدأ التنمية المتضامنة والتمييز الإيجابي، وهي الخطوات والمضامين التي تندرج ضمن ما وصفه
بــ “المشروع الوطني الشامل”.
وحتى يعطي المشيشي مدلولا عمليا لما سماه بــ “المشروع الوطني”، شدد الرجل على أنّ الحكومة “هي حكومة حلول لا تقف عند المشاكل”، وهي حكومة إنجاز، “لا تعتبر الفشل خيارا”، وهي قبل ذلك وبعده، ستعمل “بمنطق الشراكة، ليس بمنطق الحاكم والمحكوم”، الشراكة التي لا تكون في البناء والازدهار، إنما بالأساس، “شراكة في الأزمات”.
لا شك أن هذا خطاب جديد، بمعجم لغوي غير مألوف، أعلنه هشام المشيشي ضمن سياق متأزم، اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا، يهيمن عليه الإحباط والقلق والخوف..
كلنا في الهم… تونسيون
لم يختر المشيشي، خطاب الوعود والأماني، ولم يقدّم ما من شأنه أن يكون بمثابة “بالونة أمل”، بقدر ما حاول أن يزرع بذرة “الشراكة في الهم الوطني”، وهو هنا يذكرني بقول الأديب العربي، “كلنا في الهمّ شرق”، ليحوّل المشيشي، أو هو يحاول أن يخلق من فسحة الأمل، مادّة كيميائية بين التونسيين، رغم أنّه وجد الوضع في شكل معادلة فيزيائية صعبة التفكيك..
الجديد في “مقاربة المشيشي، أنّها تنطلق من تصور من خارج السياقات الحزبية، التي عجزت عن “إنتاج” معنى جديد للتونسيين منذ الثورة إلى الآن، سياقات غير مثمرة، عطّلت مسارات التنمية في البلاد لعقد كامل، بعد أن عاش التونسيون، فترة “التنمية المغشوشة”، زمن الرئيس الراحل، المخلوع، بن علي، لعقدين من الزمن..
ربما يجهد رئيس الحكومة نفسه، من أجل أن يحوّل هذا الكلام الجميل، إلى واقع يتحرك بين الناس، غير أنّه سيواجه “ماكينات الأحزاب”، في الائتلاف الحاكم، قبل المعارضة، من أجل الحيلولة دون أن ينجز، لأنّ في إنجازه، حضور شعبي له، وضمور لها، رغم أنّها لم تقدر خلال السنوات العشر العجاف، أن “تنتج” تنمية أو حتى مؤشرات واقع جديد، طالما حلم به التونسيون، ومنّوا أنفسهم بوضع مغاير للسنوات والعقود الخوالي..
ليحذر رئيس الحكومة، من كثرة “العصيّ” التي ستوضع في العجلات التي يريد تحريكها، فالائتلاف الحاكم، يريد أن يستحوذ على المنجزات، والمعارضة ترغب في فشل المنظومة التي يرأس المشيشي حكومتها، ورئاسة الجمهورية، تحرص على تغيير المعادلة، كل المعادلة السياسية والدستورية، فيما المنظمات الاجتماعية، مشتتة بين واقع سياسي متأزم، وعجز كلي على تقديم مقاربات جديدة، ومنظمات المجتمع المدني، موزعة بين أجندات وخيارات و”حسابات”، بعضها إيديولوجي، وبعضها سياسي، والبقية، مصلحي لا غبار عليه، ويعرفه السيد المشيشي، قبل غيره، فالتقارير التي بحوزته، تغنيه عن كل إضافة.
لسائل أن يسأل في هذا السياق: ما العمل؟ وهو السؤال التاريخي للزعيم لينين، خلال اللحظات الفارقة للثورة البلشيفية، السؤال الذي ينتظر المشيشي إجابة عنه، وهو بحاجة إلى أفكار جديدة، ورجال من نوع جديد، يبدو أنه بدأ يفهمه ويهضمه، من خلال فريقه الحكومي، أو جزء منه على الأقلّ، وفريق المستشارين الذين من حوله، والذين بدأوا يضعون النقاط على حروف كثيرة، ظلّت بلا تنقيط منذ عقد ما بعد الثورة إلى الآن.
من العمودي.. إلى الأفقي
وهنا لا بدّ من الهمس في أذني رئيس الحكومة، بأنّ المطروح عليه، أكثر من الحزام السياسي، وأعلى من الإجابات المستعجلة على قضايا وملفات وإشكاليات عالقة، في عنفوان الجبال الرواسي..
المطروح حقا على رئيس الحكومة، أن يغيّر من معادلة الحكم، من سياقها العمودي، إلى مجالها الأفقي، عبر خلق “ميكانيزمات جديدة”، بعضها في فرق العمل التي تحدّث عنها، والبعض الآخر في اجتماعات يمكن أن يشرف عليها شخصيا في الجهات، ضمن تراتبية جهوية وزمنية دقيقة ومنظمة، تعيد الاعتبار لما يعرف بــ “الهامش”، وجعله “منبتا” لزخم من الأفكار والمقترحات والمقاربات، النابعة من طاقات وكفاءات وآمال وطموحات، تنتظر من يشدّ على يديها، ويجنّح بها في اتجاهات رياح جديدة، وأحلام، ليست مستعصية، لكنها تحتاج إلى أصحاب شكيمة، ونوايا وطنية صادقة، أكثر من “القوة الحزبية”، مهما كان حجمها..
البلاد بشكل عام، والجهات الداخلية بشكل خاص، تحتاج إلى منوال تفكير سياسي جديد، لا شكّ أنّ الاتجاه الذي عبّر عنه المشيشي في ندوة الولاة، جزء مهم منه، لكنّه غير كاف..
البلاد تحتاج إلى أمل جديد، وطبقة سياسية مغايرة، غير مستهلكة، وخطاب سياسي بمضامين جديدة، واقعية وواضحة، وصريحة، والسلطة تحتاج إلى رجال “تواصل اجتماعي وسياسي”، وقد يكون السيد المشيشي، غير واع، بأنّ في تلكم الجهات الداخلية، الزخم الحقيقي للحلول والمخارج للوضع الراهن، والأفق الذي لم ينظر إليه أحد، إلا كمخزون انتخابي حزبي، فخسروا من حيث لا يجب أن يكرر المشيشي خسارة هؤلاء، وفشلهم وعملية التدمير الحاصلة في كل القطاعات تقريبا..
على رئيس الحكومة، أن لا يجعل من الحزام السياسي، حبلا يدار من حول رقبته، فيجرّه إلى سياق هذا الحزام وأجندته ورغباته الحزبية والشخصية والمصلحية، بحيث يتحول إلى “رهينة” بين يديه، ومضغة سيلقي بها من فيه، متى انتهت “صلوحية” رئيس الحكومة.
خواء الأحزاب.. وضعف المنظمات
الأحزاب أظهرت الكثير من الفراغ السياسي والفكري، وعدم القدرة على إنتاج أفكار ومقاربات وحلول لمشكلات البلاد المتفاقمة، بل كانت بمثابة “الجزء المعطّل” (كما يقول اللبنانيون)، في النهوض الاجتماعي والسياسي..
والمنظمات الاجتماعية، ممثلة بالأساس، في اتحاد الشغل ومنظمة الأعراف، أبانت على كثير من الفقر في مستوى “قوة المقترح”، التي يفترض أن يكون مجالها، والفضاء الرمزي الذي تتحرك فيه.
والخبراء، ليس كلّ الخبراء، تحولوا إلى موالين أو معارضين للحكم، في نوع من الزبونية للسلطة والأحزاب..
السياق الوحيد الذي ما يزال خصبا، ويمكن أن يكون مثمرا، هو سياق الجهات، بما تكتنزه من نخب ورجال وشباب ونساء، قادرون على المساهمة ــ بأشكال مختلفة ــ في صناعة وضع جديد…
السيد المشيشي، بهذه المقاربة الجديدة، يمكن أن يخلق ديناميكية جديدة في الجهات، وبينها وبين المركز (العاصمة وتونس الكبرى)، وهو ما تحتاجه تونس، بعد عشر سنوات من الثورة، التي تكاد تختزل في هذه الكلمة، إذا استثنينا، الحريات، وبداية التغيير في مستوى توزيع السلطة، وتقاسم الحكم، بصورة ديمقراطية.
بالتأكيد، سيواجه هذا الخطاب، بانتقادات شديدة، من حيث تعاطينا النقدي مع “مكونات السيستام” القائم، بجميع تمظهراته، غير أنّ نظرة أعمق لمدلول ما تحدثنا عنه، ستحيلنا على أفق جديد، حريّ برئيس الحكومة، الانتباه إلى أبعاده ومضامينه والمساحات التي يمكن أن ينفتح عليها بهذا الصدد، وأن تكون منطلقاته لمرحلة جديدة، وأسلوب جديد في الحكم، وفي إدارة الشأن العام…
وللحديث تفاصيل وحيثيات أخرى..