الصراع الآذري الأرميني: “الجغرافيا الملغومة”.. وتحولات الحرب والسياسة
عواصم ــ الرأي الجديد (مواقع)
تفاعلت العوامل التاريخية والعرقية والدينية والسياسية، وتعاقب الإمبراطوريات والغزاة في رسم طبيعة الصراع على إقليم ناغورني قره باغ، فبعد الحرب العالمية الأولى والنزاع الأول بين أرمينيا وأذربيجان على الإقليم عام 1918، أرخت الحقبة السوفياتية بظلالها على منطقة القوقاز، واعتمد السوفيات تقسيمات جغرافية وإثنية، لم تراع الخصوصيات الديموغرافية والقومية، لإحكام السيطرة على الفضاء الواسع للاتحاد وشعوبه.
وظل الصراع كامنا خلف السطوة الشمولية السوفياتية لعقود، لكن بقاياه المعلقة أشعلت الحرب من جديد بين أرمينيا وأذربيجان، بمجرد تداعي اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية أواخر ثمانينيات القرن الماضي، وكانت جولاتها تنتهي غالبا بهدن هشة.
واستمرت الحرب الأخيرة التي اندلعت في 27 سبتمبر 2020 لنحو 6 أسابيع، وحققت فيها القوات الآذرية تقدما عسكريا كبيرا وحاسما، وباتت على تخوم عاصمة الإقليم ستيباناكيرت، لتفضي الحقائق الميدانية إلى توقيع اتفاق 10 نوفمبر 2020..
بالنظر إلى العوامل المؤسسة للنزاع، يمكن فهم طبيعة الصراع بين أرمينيا وأذربيجان، ــ الذي يعد إقليم ناغورني قره باغ من أهم عوامله ــ على أنه بالأساس صراع عرقي قائم على نزعات قومية، ومحمّل بإرث من العداء بين الآذريين والأرمينيين والأتراك، كما غذته الحقبة الشمولية السوفييتية عبر الجراحات العرقية، ومحاولات التغيير الديموغرافي، والتلاعب بالجغرافيا لتثبيت السيطرة.
وأصبح النزاع بمرور الوقت، وخصوصا في العقدين الماضيين، صراعا إقليميا ودوليا، ومجال تنافس جيوبوليتيكي يتعلق بالمصالح، ومجالا حيويا للدول خصوصا بين روسيا وتركيا والولايات المتحدة وإيران والاتحاد الأوروبي وإسرائيل.
نزاع مزمن بأبعاد إقليمية ودولية
ناغورني قره باغ هو أحد أقاليم أذربيجان، وعاصمته ستيباناكيرت (نسبة إلى الزعيم البلشفي الأرميني ستيبان شاهوميان)، وهو جمهورية معلنة من طرف واحد، وغير معترف بها دوليا، تحت اسم جمهورية (آرتساخ).
رئيسه الحالي هو أرايك هاروتيونيان، ويقع الإقليم غرب العاصمة الآذرية باكو، بحوالي 270 كلم. تبلغ مساحته نحو 4400 كلم مربع، وهو إقليم فقير في الموارد، ويغلب عليه الطابع الجبلي، ويعتمد سكانه أساسا على الزراعة.
وناغورني كلمة روسية، تعني المرتفعات أو الجبال، أما قره باغ فتعني بالتركية الحديقة السوداء، أي إن ناغورني قره باغ هي ترجمة لمرتفعات الحديقة السوداء.
عدد السكان (طبقا لإحصاء أجرته السلطات الأرمينية في جانفي 2016)، يبلغ 148.1 ألف نسمة يمثل الأرمينيون (الأغلبيّة الساحقة منهم تتبع كنيسة الأرمن الأرثوذكس)، بينهم حوالي 95% من السكان، وقد كان الإقليم نقطة التقاء عدة امبراطوريات مثل الروسية والعثمانية والفارسية، مما جعله مسرحا لعدة تغيرات خصوصا في تركيبته السكانية.
إقليم ناختشيفان.. جيب أذري داخل أرمينيا
ويسمى أيضا نخجوان، إقليم أذري ذاتي الحكم، مساحته تبلغ حوالي 5363 كلم مربعا، وهو منفصل جغرافيا عن باقي أذربيجان، ويقع جنوب غرب أرمينيا، ويتطلب العبور إليه من أذربيجان المرور إما عبر مقاطعة أذربيجان الغربية الإيرانية أو أرمينيا، ويتيح الإقليم لأذربيجان، الاتصال الجغرافي مع تركيا من خلال نافذة عرضها 8 كيلومترات فقط، عاصمته مدينة نخجوان.
كان اسم الإقليم الجمهورية الاشتراكية السوفياتية، ناختشيفان منذ مارس 1921، ثم أرض ناختشيفان من 16 جوان 1923، وجمهورية ناختشيفان، ذاتية الحكم، اشتراكية، سوفياتية من 9 فيفري 1924، وأخيرا، ناختشيفان، جمهورية ذاتية الحكم في 17 نوفمبر1990.
يتميز الإقليم، الذي تحده إيران جنوبا وتركيا غربا، بأراضيه الخصبة وطبيعته الساحرة، وقد تعرض للقصف في المعارك الدائرة، ومن أشهر مواطنيه الرئيس الحالي لأذربيجان إلهام علييف ووالده الرئيس السابق حيدر علييف (1923-2003).
ومن أهم المكاسب التي حققتها أذربيجان ضمن اتفاق 10 نوفمبر لوقف إطلاق النار، أنها انتزعت الموافقة على فتح ممر عبر أرمينيا بينها وبين الإقليم، وهو ما يعد تحولا إستراتيجيا في علاقة باكو بالإقليم التابع لها إداريا.
الموازين العسكرية.. أذربيجان بترسانة أقوى
شنت أذربيجان حملة عسكرية على الإقليم في سبتمبر/أيلول 2020 دامت 6 أسابيع، تمكنت بنتيجتها من استعادة 5 أقاليم أذرية احتلها الأرمينيون عام 1994 في محيط قرة باغ، واستعادة مدينة شوشي الإستراتيجية داخل الإقليم، وقضى الاتفاق الذي رعته موسكو في 9-10 نوفمبر/تشرين الثاني بانسحاب الأرمينيين من محافظتين أخريين كانتا قد احتلتا عام 1994.
زعيمان وصراع متجدد
إلهام علييف / الرئيس لاذربيجاني
ورث إلهام علييف رئاسة أذربيجان عن والده حيدر بعد وفاته عام 2003، وهو الذي حكم البلاد بالحديد والنار منذ 1969، كممثل للاتحاد السوفياتي، ثم رئيسا بعد انهياره، وسيورثها لزوجته التي نصبها نائبة له عام 2017، يكاد يكون سجل علييف في حقوق الإنسان من بين الأسوأ في العالم، إذ يزوّر الانتخابات، ويمنع المعارضين من منافسته، ويحتجز في سجونه صحفيين ونشطاء ومدافعين عن حقوق الإنسان. ومع ذلك، فهو غربي الهوى، يرسل النفط والغاز لأوروبا وإسرائيل بلا حساب، ويظهر نمطا من الإسلام يوصف بأنه “معتدل وحديث” والغرب يبادله المودة بمثلها.
علييف، الذي وُلد عام 1961، يقدم نفسه لشعبه كسياسي مثقف يتحدث 5 لغات، وكزعيم دولي حاصل على عدد كبير من الأوسمة والنياشين، وكمفكر أكاديمي كرمته جامعات العالم، وحتى كبطل رياضي حاز العديد من البطولات. عمل على تعزيز قوة جيشه، وجعل بلاده من بين الأكثر تسلحا مقارنة بعدد السكان، ولا يرى بلدا يضمر العداوة لبلاده مثل أرمينيا، يعتقد علييف أن أرمينيا تحتل أجزاء من بلاده في ناغورني قره باغ، ويشكك في نجاعة المفاوضات؛ لكنه يريد أن تكون تركيا، حليفه الإقليمي، طرفا فيها.
وبعد توقيع الاتفاق الشامل لوقف إطلاق النار برعاية روسية، قال علييف إن رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان وقع “وثيقة استسلام” تحت وطأة الانتصارات العسكرية الأذرية، معتبرا أن ما حصل “حدث تاريخي” بالنسبة لبلاده.
نيكول باشينيان / رئيس وزراء أرمينيا
لم يكن من الممكن لباشينيان أن يصبح رئيس وزراء لأرمينيا إلا بعد ثورة كتلك التي شهدتها البلاد عام 2018. فقد بدأ حياته السياسية كناشط أثناء دراسته في جامعة يريفان، التي فُصل منها بسبب توجهاته عام 1995. أثناء دراسته، عمل صحفيا، وهي المهنة التي حافظ عليها، رغم المتاعب التي جلبتها، حتى عام 2012، حيث تعرض للاعتقال عام 2010، وبعد أن أُدين بالتظاهر والعصيان المدني، حُكم عليه بالسجن 7 سنوات، قضى منهم أقل من سنتين قبل أن يُفرج عنه بعفو من السلطات.
خلال فترة اعتقاله، برز اسمه كأحد سجناء الضمير المعروفين عالميا. بعد ذلك شارك في العمل السياسي كقيادي حزبي، ثم كعضو في البرلمان، إلى أن قاد الحراك الذي أشعل الثورة المخملية في أبريل/نيسان وماي 2018.
مواقف باشينيان الجذرية في الداخل انعكست على موقفه من ناغورني قره باغ، فعلى مدار 26 سنة، كانت القضية هادئة إلى حد ما؛ لكن الأوضاع تدهورت بعد تصريحات لوزير دفاعه في مارس 2019، أمام حشد من مواطنيه في نيويورك قال فيها إن أرمينيا قد تشن حربا جديدة لتحصل على أرض جديدة، وكذلك تصريحات له قال فيها إن “قره باغ هي أرمينية، لا أكثر ولا أقل”.
لم يستطع باشينيان وقواته الصمود في الحرب الأخيرة أمام التفوق الأذري والتقدم السريع لجيشه، الذي بات على مشارف عاصمة الإقليم ستيباناكيرت، وهو ما اضطره إلى قبول اتفاق وقف إطلاق النار، الذي اعتبره “مؤلما بشكل لا يوصف لي شخصيا ولشعبنا”، ويواجه باشينيان مظاهرات واسعة تطالب برحيله كرد فعل على توقيعه للاتفاق، كما أعلنت أجهزة الأمن الأرمينية إحباط محاولة لاغتياله يقف وراءها عدد من قادة المعارضة.
مجموعة مينسك.. إطار دولي لم ينزع فتيل الحرب
تأسست مجموعة مينسك، التابعة لمنظمة الأمن والتعاون بأوربا في مارس 1992، لإيجاد حل سلمي للأزمة التي بدأت مع احتلال أرمينيا لإقليم قره باغ ومحافظات أذرية أخرى.
تضم المجموعة 17 عضوا، بينهم تركيا؛ ولكن ترأسها 3 دول فقط، هي فرنسا وروسيا والولايات المتحدة، ولم تستطع هذه الدول حل الأزمة أو تفعيل قرارات مجلس الأمن، التي تنص على إنهاء الاحتلال الأرميني.
واجهت “مينسك” اتهامات بالانحياز إلى جانب إدارة أرمينيا في نزاع قره باغ؛ بسبب الضغوط التي تمارسها الأقليات الأرمينية في تلك البلدان، خصوصا الولايات المتحدة وفرنسا، كما أن لعبة المصالح والنفوذ والمتغيرات السياسية تعقد عملية حل الأزمة.
اتفاق 10 نوفمبر.. هل ينهي الصراع؟
منذ اندلاع الحرب بين أرمينيا وأذربيجان عام 1988، كانت المعارك تنتهي بهدن هشة واتفاقات غير كاملة، سرعان ما يتم نقضها لتعود المعارك بدون أن تحسم الوضع عسكريا بالإقليم؛ لكن الاتفاق الأخير الذي تم برعاية روسية، وبعد مفاوضات مع الجانب التركي، أفرزته حقائق عسكرية ميدانية جديدة، إذ كان التفوق واضحا للجانب الآذري، الذي حرر مساحات واسعة من الإقليم في معارك خاطفة ووصل إلى تخوم عاصمته ستيباناكيرت، وهو ما بدا واضحا من عدم قدرة أرمينيا على الصمود أو المواجهة العسكرية الطويلة، كما أن دخول تركيا وروسيا على خط الأزمة قد يساهم في جعل هذا الاتفاق ناجزا.
بنود الاتفاق
في خطاب خاص أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أنه ونظيريه الأرميني والآذري، وقعوا إعلانا مشتركا حول وقف شامل لإطلاق النار في إقليم ناغورني قره باغ برعاية روسية، ووصفه الرئيس علييف بأنه “تاريخي”، وقد جاء بعد مفاوضات شاركت فيها تركيا، وينص الاتفاق على البنود التالية:
** إعلان وقف كامل لإطلاق النار اعتبارا من منتصف ليل 10 نوفمبر بتوقيت موسكو، وتوقف الجيشين الآذري والأرميني في مواقعهما، وقد تعهدت الأطراف بتبادل أسرى الحرب.
** إعادة أرمينيا منطقة كلبجار إلى أذربيجان بحلول 15 نوفمبر، ومنطقة لاتشين بحلول 1 ديسمبر2020، تاركة تحت سيطرتها ممر لاتشين بعرض 5 كيلومترات، مما سيضمن ربط قره باغ بأرمينيا، ولا تنطبق هذه النقطة على مدينة شوشي الإستراتيجية، التي أعلنت باكو تحريرها يوم 8 نوفمبر.
** تقوم أرمينيا بحلول 20 نوفمبر2020 بتسليم أذربيجان منطقة آغدام وجزءا من منطقة غازاخ الآذرية التي تحتلها.
** يتم نشر وحدة حفظ سلام روسية قوامها 1960 عسكريا، مع 90 ناقلة جنود مدرعة، و380 قطعة من المعدات الخاصة، على طول خط التماس في قره باغ، وعلى طول ممر لاتشين بالتزامن مع انسحاب الجيش الأرميني.
** حددت مدة بقاء القوات الروسية بـ5 سنوات، مع التجديد التلقائي لفترات إضافية مدتها 5 سنوات، إذا لم يقرر أي من أطراف الاتفاقية الانسحاب منها.
** يتم تحديد خطة خلال السنوات الثلاث المقبلة لبناء طريق مرور جديد على طول ممر لاتشين، لتوفير وضمان الاتصال بين ستيباناكيرت وأرمينيا، مع إعادة نشر وحدة حفظ السلام الروسية لاحقا لحماية هذا الطريق.
** تتعهد أذربيجان بضمان سلامة خطوط النقل على طول ممر لاتشين.
** ضمان عودة النازحين واللاجئين إلى قره باغ والمناطق المحيطة بها، تحت إشراف المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.
** إلغاء الحظر المفروض على جميع الروابط الاقتصادية والنقل في المنطقة، وقد تعهدت أرمينيا بضمان النقل والتواصل بين المناطق الغربية لأذربيجان وجمهورية ناختشيفان ذاتية الحكم، وسيخضع ذلك لمراقبة حرس الحدود الروسي.
المصدر: موقع “الجزيرة نت”