ماكرون.. والإسلام.. والعلمانية الفرنسية: الحسابات القديمة في وضع جديد..
بقلم / صالح عطية
عندما يتعهد الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، “بمواصلة نشر الكاريكاتير المسيء للنبي محمد صلى الله عليه وسلم”، فإنّ الرجل قد اتخذ خطوة ثقافية وسياسية واستراتيجية، خطيرة على فرنسا، وعلى مستقبله السياسي، وعلى علاقات فرنسا مع العالم العربي برمته، بل حتى مع دول أخرى من خارج المربع العربي والإسلامي، التي لا تتجرأ بمثل هذا التصريح المتسرع، الذي يعكس إرباكا في وعي ماكرون قبل سياساته وخياراته..
التراجعات الداخلية
واضح أنّ الرئيس الفرنسي، دخل في مسار متوتر منذ فترة، وبخاصة منذ خسارته الانتخابات البلدية قبل عدّة أشهر، كمؤشر على تراجع شعبيته، وفقدانه المصداقية في علاقة بشعبه وناخبيه، وهو ما سوف يكون له انعكاسات كبيرة وضخمة على تطلعاته الانتخابية المقبلة، في التشريعية والرئاسية خلال العامين القادمين..
وتتزامن هذه الخسارة الانتخابية، مع موجة “السترات الصفراء” المحتجّة على سياساته الاجتماعية والاقتصادية، وهي ما تزال تتربص بالعودة إلى الشارع، فور انتهاء الموجة الثانية من فيروس “كوفيد19” الذي هزّ فرنسا صحيا واجتماعيا، بعد أن هزتها احتجاجات أصحاب “السترات الصفراء”..
لم يكتف ماكرون بهذه الخسارات، بل حصد مزيدا من التراجعات على الصعيد الإقليمي والدولي، وفي علاقة بالعالم العربي، والملفات الحارقة التي يئنّ تحت وطأتها.
أوروبيا، تبدو فرنسا أضعف حلقة في الاتحاد الأوروبي، بعيدا عن جولات ماكرون المكوكية هنا وهناك، في تحرك “اتصالي” ليغطي به ضعف دبلوماسيته وتراجع سطوتها السياسية دوليا، وأمكن لألمانيا أن تستحوذ على القرار الأوروبي، أمام التراجع الاقتصادي الفرنسي على الصعيد الدولي (السابعة في الاقتصاد العالمي)، دون اعتبار الصراع الفرنسي الإيطالي، الذي يميل إلى روما منذ فترة، خصوصا في بعض القضايا والملفات المغاربية البارزة (ليبيا والجزائر والمغرب وتونس).
ويبرز الارتباك الفرنسي الخارجي، بوجه خاص، في الخلاف اليوناني التركي، حيث فشل ماكرون في رأب الصدع بين الدولتين، فلم يربح أثينا، وزاد في خسارته مع تركيا، باعتبار أنّ موقف فرنسا بهذا الصدد، لم يكن يستند إلى مبادرة سياسية، بقدر ما استخدم الابتزاز أسلوبا في التدخل لحسم الصراع، فضلا عن اصطفافه خلف اليونان، وهو ما أفشل مساعيه، وزاد من وتيرة تناقضاته مع الرئيس التركي، أردوغان، فيما تبدو ألمانيا، الدولة الأكثر حذقا لإدارة الصراعات الأوروبية، رغم جوهر خلافها مع تركيا، على خلفية موضوع أرمينيا وملابساته التاريخية والحاضرة.
الملف المغاربي
وعمل ماكرون على أن يكون له تدخل في مسار ثورات الربيع العربي، باتجاه القطع مع هذا المسار، والتشجيع على العودة للمنظومات القديمة التي ثارت عليها شعوبها، في استمرار “غبي” لنهج الرئيس السابق، ساركوزي، الذي حاول إنقاذ بن علي من الثورة التونسية، مثلما حاول أن يفعل مع الثورة الليبية لاحقا، دون جدوى، لينتهي به المطاف إلى المحاكم الفرنسية بتهمة الفساد والجرائم الجنائية التي اقترفها في حق الشعب الليبي..
اصطف ماكرون خلف اللوبي الإماراتي ــ الإسرائيلي ــ المصري، لتغيير الوضع في تونس ــ على سبيل المثال ــ وتحقيق ارتداد في الوضع السياسي، بلغ ذروته في “المحاولة الانقلابية” التي جرت في نهاية جويلية الماضي، فيما سماها الرئيس التونسي، قيس سعيّد، بــ “محاولة الانقلاب على الشرعية”، دون أن يسمي فرنسا (لاعتبارات علائقية ودبلوماسية)، ولولا تدخل قوات العمليات الخاصة الأميركية (بنتاغون)، لإنقاذ الموقف، لكانت تونس في دوامة فوضى الآن، لا يعرف أحد مداها ومخرجاتها السياسية والاجتماعية..
وحاول ماكرون، عبثا، الدخول على خطّ الحراك الجاري حاليا في الجزائر، لكنّه وجد شعب المليون شهيد، الرافض رفضا قطعيا لأي دور فرنسي في هذا الحراك، وفي مستقبل الجزائر، وما يزال الجزائريون بانتظار الاعتذار الرسمي الفرنسي المعلن إزاء جرائمها في الجزائر خلال فترة استعمارها، وما ارتكبته من مجازر، رغم كل مساحيق التعبيرات السياسية التي أطلقها ماكرون ووزراءه، كبديل عن الاعتذار، ورفضه تقديم أرشيف حقبة الاستعمار للجزائر، ما جعل علاقات فرنسا / ماكرون، بالجزائر في وضع شديد الحساسية منذ فترة، ليس على المستوى الشعبي فحسب، وإنما كذلك على الصعيد الرسمي، مع تغيّر مورفولوجيا الطبقة السياسية الحاكمة في الجزائر..
لم تنفع حينئذ، ترسانة الكلمات التي استخدمها النظام الفرنسي، كبديل عن كلمة “اعتذار”، وظلت محاولاته، “خارج السياق” تماما.
الملف الليبي
وعلى مستوى الملف الليبي، “جاهد” ماكرون من أجل أن يضع قدما راسخة في الوضع الليبي، طمعا في اقتسام جزء من الكعكة الضخمة، التي تحتاجها فرنسا للخروج من أزمة اقتصادها، الذي يواجه صعوبات معقدة منذ أكثر من عام، قبل أن تداهمه “كورونا” بويلاتها الكبيرة، وظل الرئيس الفرنسي يخبط خبط عشواء في المسألة الليبية، بين مساندة اللواء المتقاعد خليفة حفتر، المرتبطة به جرائم ضدّ الإنسانية، والضغط على حكومة الوفاق، للقبول بالتفاوض مع حفتر، مرورا “بمؤتمر باريس” الفاشل، الذي أراده أن يكون أحد مخرجات الحلول الفرنسية لليبيا، فارتدّ عليه، رفضا من الليبيين، شعبا ومسؤولين، وصولا عند محاولاته الأخيرة، التأثير في الموقف التونسي، وجعله بوابة لاختراق الملف الليبي، دون أن يظفر بما كان ينتظره، رغم ضعف التقدير الرئاسي التونسي وهشاشة دوره ومقاربته.
ويبدو أنّ ماكرون، سيعضّ على أصابعه بهذا الشأن، عندما يستفيق على وضع ليبي، لن ترضى الولايات المتحدة ولا روسيا ولا تركيا، شراكة فرنسية في اقتسام كعكة البترول والطاقة، ولا دورا فرنسيا في إعادة إعمار ليبيا..
محاولات يائسة في الشرق الأوسط
وفشلت فرنسا في تدخلها في الوضع السوري، أمام تذرر الملف بين واشنطن وموسكو وطهران وإسطنبول، بحيث باتت فرنسا متفرجا على وضع كان يفترض أن تكون لاعبا أساسيا فيه، كما كانت قبل أكثر من عقد، من خلال التنسيق الأمني والاستخباراتي والإقليمي مع نظام الأسد (الأب والإبن).
وغير بعيد عن سوريا، لم تنجح باريس في جمع الفرقاء اللبنانيين، رغم كل الثقل الذي نزل به ماكرون إلى الشارع اللبناني، وسط رفض يتنامى من اللبنانيين ضدّ أي تدخل فرنسي، يرونه “جزء من الثورة المضادّة” لثورتهم الهادئة، التي تهدف إلى الإطاحة بكامل الطبقة السياسية اللبنانية، بيمينها ويسارها وأخطبوطها الحزبي والسياسي والطائفي، الممتدّ باتجاه باريس وإيران.
ورغم عودة سعد الحريري إلى دفة الحكومة، فإنّ الشارع اللبناني، وتنسيقية حراك الثورة في لبنان، بعث بكثير من الرسائل الرافضة لهذه الخطوة، ولما يعتقدون أنه من مآلات التدخل الفرنسي..
أما فيما يخص الشأن المصري، فقد صمتت باريس إزاء الجرائم الفظيعة التي يرتكبها نظام السيسي ضدّ شعبه ومعارضيه، في عملية تنكيل واضحة، وتصفية سياسية لخصومه، في تجاوز وخرق واضحين لكافة معايير ونواميس حقوق الإنسان، التي طالما تشدّقت بها فرنسا، وحاولت الظهور بمظهر المدافع عنها، كجزء من “علمانيتها الديمقراطية” المزعومة.
إفريقيا المتطلعة
على الصعيد الإفريقي، لم تعد فرنسا، “الفاتح العظيم” لشعوب القارة، ولم تعد تلك الدولة التي تحمل لواء التنمية والديمقراطية والهيمنة الثقافية التقليدية (عبر اللغة الفرنسية)، بل أضحت باريس، رقما غير مرغوب فيه، في معادلة إفريقية جديدة، يحمل لواءها مثقفون وجامعيون وطلبة وشباب إفريقي، جزء كبير منهم تربى في قلب الثقافة الفرنسية، وزار المعاهد والجامعات الفرنسية، واحتكّ بالفرنسيين، ومنهم من شارك الفرنسيين في مشاريع اقتصادية وتجارية، وهم اليوم يتقدمون الصفوف في مجالات الدفاع عن “استقلال القرار الإفريقي”، وعن “تحرر إفريقيا” من براثن “الإستحمار الثقافي” (العبارة للمفكر الإيراني، علي شريعتي)، الذي مارسته فرنسا معهم منذ عقود طويلة، ونهب ثرواتهم، وتخريب اقتصادياتهم، بل وتخريب الطبقة السياسية، ومنعهم من ممارسة سيادتهم على بلدانهم..
لذلك، ومن باب الغرابة حقا، أن نستمع إلى الرئيس الفرنسي، ماكرون، وهو يعلن بكل صفاقة وعنجهية، أنّ “بلاده “ستحمل راية العلمانية عاليا”، وذلك على خلفية مقتل الأستاذ، صموئيل، من قبل شاب شيشاني، بمعزل تام عن أي علاقة للعملية الإرهابية تلك، بالعرب أو المسلمين المقيمين في فرنسا، لكنّه الإسقاط الثقافي والإيديولوجي للرئيس الفرنسي، في محاولة منه، لاستخدام “الورقة الإسلامية” في معاركه الداخلية، وتخويف الفرنسيين من “الإسلام السياسي”، كما تسميه فرنسا، ومن الجاليات المواطنية المسلمة هناك، التي باتت تهدد ماكرون بخسارة قادمة في الانتخابات المقبلة، وفق ما تشير إليه التوقعات واستطلاعات الرأي الداخلية.
علمانية ماكرون المتخلفة
نقول للرئيس الفرنسي، إنّ هذه العلمانية، مفلسة، ومتوحشة، بين العلمانيات الغربية الأخرى، الأميركية والبريطانية والألمانية وغيرها، عسى أن تنقذ ما يمكن إنقاذه من سياساتك، التي لم تزد فرنسا إلا “غربة” في محيطها الداخلي والأوروبي والعربي والإفريقي، فيما أنت تكرر أخطاء سابقة، أخرجت فرنسا من مربعات علاقاتها التقليدية المعروفة، وحولتها إلى بلد يستعدي شعوبا تائقة للحرية والديمقراطية والاستقلال الوطني الحقيقي… شعوب تقودها نخب لم تعد ترضى بالعلمانية الفرنسية التي تتباهى بها سيدي الرئيس، بل باتت ترى فيها “عائقا إبستمولوجيا” ضدّ تطورها وتقدمها وانطلاقها الحضاري..
للأسف، لم يقدر ماكرون، أن يتبع خطى الراحلين، فرانسوا ميتران وجاك شيراك، في علاقتهما بالعالم العربي، الذي يذكر الرجلين، مع تفاوت في التقدير طبعا، بشيء من الاحترام، لأنهما، وإن عملا من داخل المصالح الفرنسية، لكنهما بنوع من البراغماتية والشراكة مع العالم العربي..
اللافت في المواقف والتقدير الفرنسي، وفي سياسات باريس منذ عقود، أمران شديدي الخطورة، على نخبنا أن تنتبه إليهما، وهما:
ــــ أنّ فرنسا، طوال تاريخ علاقتها بالعالم العربي، أو إفريقيا، لم تكن تدفع باتجاه الديمقراطية والحريات، بل كانت عبئا على القارة، وعائقا أمام تحولات ديمقراطية حقيقية، عبر الانقلابات العسكرية، التي حاكتها وتحكمت فيها وفي مآلاتها، على عكس الدور الأميركي، الذي يراهن بنسب متفاوتة بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي، على المسألة الديمقراطية، وشفافية التعاملات السياسية والاقتصادية، وحراك المجتمع المدني..
فرنسا كرست جهودها المضنية، من أجل حماية دكتاتوريات وعروش وقلاع استبدادية على طول العالم العربي وإفريقيا، وساهمت في إنبات بيئة متعفنة سياسيا وحقوقيا، وهي من هذه الزاوية، لا يمكن أن تكون جزءا من حراك الشعوب المتطلعة لوضع عربي وإسلامي جديد، ديمقراطي ومنفتح ومتعدد، فرصيدها في الديمقراطيات العربية، صفر على جميع الواجهات.
ــــ لا شك أنّ ماكرون، يحتاج إلى مشروع سياسي وثقافي جديد، في مواجهة موجات التقدم والنهوض الديمقراطي في المنطقة، أما الإصرار على “حمل راية العلمانية عاليا”، بكل هذا التاريخ العلماني الفرنسي الموغل في تكبيل الشعوب وصدّ تحولاتها وتطورها واستقلالها، على النحو الذي كنا بصدد تفكيكه، فمعناه أنّ العقل السياسي الفرنسي، متوقف، وهو يحتاج إلى “مراجعات موجعة”، ثقافيا وسياسيا واستراتيجيا، قد لا يقدر عليها ماكرون، الباحث عن انتصار مؤقت، فيما فرنسا تحتاج إلى ما هو أكبر من هذا “الشاب” الذي تعوزه التجربة، ويفتقر إلى القيادة التي تخوّل له السيطرة على ميكانيزمات السلطة ودوائر القرار في الدولة الفرنسية، التي تتقاذفها اليوم، صراعات بين أجهزتها ودوائر القرار فيها..
فرنسا تحتاج إلى رئيس جديد، ينظر إلى العالم من حوله، ليس كـ “كانتونات” أو “حدائق خلفية” لاستعماره القديم، وإنما كشعوب ونخب وقوى حيّة، بثقافتها وفكرها، دون تصادم مع المخزون الثقافي، أو الإرث الديني والروحي، أو التطلعات الجديدة المنطلقة نحو تغيير حقيقي، سواء رغبت فرنسا / ماكرون بذلك أم لم ترغب..
إنّ الرسوم الكاريكاتورية المسيئة لرسول الإسلام، محمد صلى الله عليه وسلم، هذا الرجل العظيم، بشهادة مراكز الدراسات وعمليات سبر الآراء في الغرب بالذات، التي صنفته “الأكثر تأثيرا في البشرية على امتداد التاريخ الإنساني”، لا يمكن أن تكون عنوانا لحرية التعبير والرأي، بل هي عنوان لعلمانية متخلفة، غير قادرة على احتضان التعدد في المجتمع الفرنسي وحمايته، ودليل على إفلاس العقل الماكروني، الذي يحاول أن يقتات من الإرهاب، لكي يحصد مواقع وأصوات وحظوة، خسرها بسياساته، ويريد أن يسترجعها بافتعال معارك قديمة، كنا نعتقد أن فرنسا تجاوزتها.