كورونا تفتك بالتونسيين.. و”الحجر الصحي المؤقت” القرار السياسي المطلوب بشجاعة
بقلم / صالح عطية
تتكاثر الإصابات بكورونا منذ بداية الموجة الثانية في أوت الماضي، وخاصة في سبتمبر المنقضي، وتزداد مخاوف الرأي العام والمواطنين، في ظل قلة الإمكانات اللوجستية في المستشفيات، ومحدودية التجهيزات الصحية، وازدياد عدد الوفيات بسبب كورونا، التي انتقلت من المستوى الشعبي، إلى المساس بالقطاعات، الرياضية والإعلامية والصحية والصناعية والتعليمية، بما أصبح يهدد المؤسسات والفضاءات الإدارية الهامة، وسط لامبالاة شعبية تكاد تكون واسعة، وذهول غريب من قبل الدولة..
ظلت الحكومة تعتمد الإستراتيجية السابقة التي وقع العمل بها في الموجة الأولى، فيما نحن في موجة ثانية أكثر خطرا، وأوسع انتشارا، وفي مناخ وسياق غير سياق الموجة الأولى تماما، فالدولة هنا، وإن ألزمت المؤسسات والقطاعات بالبروتوكول الصحي، فإنها لم تكن حازمة في التطبيق، وتعاملت مع بعض القطاعات بمنطق الخشية من ردود الفعل النقابية والإدارية، أكثر من الخشية على صحة التونسيين وعافيتهم.
وبرزت ظواهر لافتة للنظر، أهمها رفض عديد المستشفيات قبول المصابين بكورونا، في ظل غياب الإمكانات، وخاصة الأسرّة، وأجهزة الأوكسيجين، والكمامات اللازمة للأطباء والمرضى، ووسائل الوقاية اللازمة لهم.
سوء إدارة الملف الصحي
تم فتح الحدود لتنقل الأشخاص عبر البر والبحر والجو، دون رقيب أو متابعة أو حزم، بل كان الأمر تنفيذا لضغوط محلية (قطاعية)، وخارجية أيضا، ما تسبب في استقبال الوباء في مجالنا الوطني بسلاسة، وسرعة انتشاره، بإدارة سيئة لرئيس الحكومة السابق، الفخفاخ، الذي غلّب مشكلاته وحساباته الشخصية، على مصلحة المواطنين، ورغم ذلك لم يحاسبه أحد على صنيعه، بل استقبله رئيس الجمهورية، وهنأه على الخدمات التي قدمها للدولة.
وأصرت الحكومة بشكل غير مبرر، على فتح المدارس والمعاهد والكليات، رغم كل التحذيرات من مسؤولين على القطاع الصحي، وخصوصا الأطباء والمشتغلين على الوباء (كوفيد19)، في نوع من التشدد، تحت عنوان الحرص على الموسم الدراسي، وعلى كفايات التلاميذ… فماذا تقول الحكومة الآن ؟ وهل الأهم صحة الناس وعافيتهم، وصحة الأجيال القادمة، أم مجرد الإصرار والتعنّت على العودة المدرسية ؟
ألا يحاسب من قرر هذه العودة المدرسية والجامعية، من رئيس الحكومة السابق، إلياس الفخفاخ، الذي ترتبط به قضايا فساد، مرورا بوزير التربية، فتحي السلاوتي، الذي تعامل مع الموضوع، في علاقة بمهارات التلاميذ وقدرتهم على التعلم، دون التفكير في مصيرهم، وصولا إلى رئيس الجمهورية، الذي لم يتدخل في هذا الموضوع، فيما تدخل في مسائل لا تعنيه لا بالطول ولا بالعرض..
لم تكن الدولة حازمة في فرض تطبيق جدي للبروتوكولات الصحية الموقع عليها في أكثر من قطاع، حيث ظلّ أغلبها حبرا على ورق، واقتصر البروتوكول على ضرورة وضع الكمامة عند دخول المؤسسات العمومية والخاصة، أو غسل اليدين بالسائل المعقم، فيما الفضاءات والمناخات العامة في البلاد، مزدحمة وفوضوية ويختلط فيها الحابل بالنابل.
ومع تظاهر الأطباء والممرضين والكادر الصحي بشكل عام، للمطالبة بوسائل الوقاية والحماية، أمام تفشي كورونا في الوسط الصحي، وتهديد هؤلاء بالإضراب، وتمنع بعضهم عن معالجة المصابين، خشية العدوى ــ وهذا من حقهم ــ ازداد الأمر تعقيدا، وباتت المخاوف ليس من الوباء فقط، وإنما كذلك من إمكانية تفشيه بشكل كبير، بما يجعل السيطرة عليه صعبة، إن لم نقل مستحيلة..
ولم تدر الحكومة الشأن الصحي بالكيفية الناجعة، فتركت المقاهي مفتوحة، تنفث غبار الشيشة والسجائر بين مرتاديها، وتركت المطاعم مفتوحة يتردد عليها الناس كما لو كان الوضع عاديا، وسمحت بفتح مستمر ومتواصل للفضاءات التجارية الكبرى، يؤمها الناس من كل حدب وصوب، بل ويظلون فيها لساعات، يحتسون القهوة والمشروبات، ويتناولون أغذيتهم، ويروحون عن أطفالهم، يكفي أن تكون لديك كمامة، حتى يسمح لك بالدخول والمكوث هناك.
أما وسائل النقل العمومي والخاص، فحدّث ولا حرج… فالتسيب والفوضى والاكتظاظ والازدحام، هي العناوين البارزة لوسائل النقل، التي باتت حاضنة للفيروس، ومن ثمّ للعدوى والإصابة بهذا الوباء الفتاك.
البنوك، والإدارة، والمؤسسات الصحية، والفضاءات التجارية، والحدائق العمومية، أو ما تبقى منها، والمقاهي، والمطاعم، والفنادق، خصوصا بالعاصمة والمدن الكبرى، والقاعات الرياضية الخاصة، والمدارس والمعاهد، كلها أماكن للعدوى وتفشي الوباء..
نواقيس الخطر
ـــ ها أنّ رئيسة قسم أمراض الرئة بأريانة، ترفع صوتها عاليا قائلة: أيام قليلة وسنجبر على اختيار من سيعيش ومن سيموت…
ـــ وهذه لجنة مجابهة الكوارث، تقترح إقرار حظر التجوّل لمدّة 15 يوما، والعمل بنظام الحصة الواحدة…
ـــ وها أنّ وزارة الصحة تتحدث عن “بؤر خطيرة”، و”عالية”، وعن “مناطق تحتاج إلى الحجر الصحي”…
ـــ وهؤلاء الأطباء، يغلقون الطرقات في ساحة باب سعدون للاحتجاج على أوضاع عملهم الخطيرة، في ظل تفشي كورونا بشكل لافت..
وأمثلة أخرى كثيرة ومتعددة، تعكس مخاوف الناس والأطباء والمختصين والمؤسسات…
غير أنّ “العقل الحكومي”، ما يزال يتعامل مع الموضوع وكأنه مجرد ملف إداري أو سياسي، بلا رؤية، ولا تصور، ومن دون خريطة طريق، فيما “قارب الموت” بفعل كورونا، يعبر السماء والأرض التونسية، ويخترق البيوت والمصانع والمؤسسات، والأحياء والبيوت، مخلفا الموتى والمرضى من كل الأعمار تقريبا..
ستقول الحكومة، الإمكانات متواضعة، والميزانية مثقلة بالديون الخارجية والداخلية..
وستقول، إنها اختارت فلسفة التعايش مع الفيروس، بدلا من منطق الإغلاق و”التصكير”.. وستقول الحكومة الحالية، كما قال أسلافها من الحكومات المتعاقبة، أنها “ورثت تركة ثقيلة بحجم الجبال الرواسي”، وهي تحرص على مجاراة الوضع..
وستقول إنها تراقب الوضع عن كثب، وأنها تتلقى تقريرا يوميا من وزارة الصحة، وأنّ الأمر إلى حدّ الآن مطمئن، ولا يبعث على القلق..
وستقول الحكومة… وتقول.. وتبرر.. وتفسّر.. و… و… و……..
ورغم أننا غير مقتنعين تماما بهذه الأجوبة، “البايخة”، فإننا نتساءل مثلما يتساءل المواطنون
التونسيون في كل مكان، داخل تونس وخارجها، أين تلك المبالغ المالية الهامة التي حصلت عليها الدولة من مساعدات وهبات ومساهمات، خاصة من دول صديقة وشقيقة، ومن منظمات دولية وأممية، بالإضافة إلى تبرعات التونسيين في صندوق 18 ـ 18 الحكومي؟ فيم صرفت هذه المبالغ الطائلة التي يتردد أنها فاقة الــ 8 آلاف مليار تونسي؟ هل صرفت لتمويل قطاعات أخرى، أو حلحلة ملفات أخرى، على حساب صحة التونسيين؟
أين الرقابة العامة للمالية العمومية، لماذا لا تجري تحقيقا إداريا حول هذا الموضوع، تقدّم نتائجه للتونسيين، وتجيبهم على السؤال الذي يؤرقهم: أين صرفت تلك الأموال؟ وفيم اتجهت؟ أم تراها تبخرت كما تبخر غيرها؟
مسؤولية الرئيس ومجلس الأمن القومي
لماذا العناد الذي تمارسه الحكومة فيما يتعلق بالكوفيد19، المسألة ليست للهو، نحن في أخطر مراحل الفيروس وانتشاره، وفق تقدير الخبراء، ويحتاج الأمر إلى قرارات جريئة، ليست من قبيل الإجراءات التي اتخذها وزير التربية مع اتحاد الشغل أمس، والتي لن تحدّ من تفشي الفيروس، لأنها مجرد تعامل إداري مع الموضوع..
تحتاج تونس إلى قرار سياسي بالحجر الصحي ولو لفترة محددة، تفتح فيها محلات بيع المواد الغذائية والخضر وبعض المرافق العمومية الأساسية فحسب، حتى يتلملم شتات الجهود الطبية، ويمكث الناس في بيوتهم خلال هذه الفترة، بلا خوف أو وجع الفراق، حتى تمر هذه الموجة الثانية بسلام.
على رئيس الجمهورية، التحرك في إطار مجلس الأمن القومي، لكي يذهب بهذا الاتجاه، فلديه هنا الصلاحية السياسية والدستورية والأخلاقية التي تخول له ذلك.
خارج هذا القرار، سادتي رئيس الحكومة ورئيس الجمهورية وأعضاء مجلس الأمن القومي، سنكون أمام مخاطر الموت اليومي البطيء لكثير من التونسيين، وعندئذ سيكون الحساب المجتمعي أشدّ، ولا أحد يمكن أن يتصور أين تتجه الأمور في هذه الحالة..
فعند فقدان الأهل والأحبة، يتصرف الناس بشكل يخرج عن تقديرات علماء الاجتماع وخبراء الأمن وغيرهما…