التنافسية.. أم المعارك في الزمن الانتقالي؟
بقلم: د.خالد شوكات*
هناك معارك علنية ومعارك خفيّة، ومعارك ظاهرية وأخرى باطنية، ومن دواعي تسمية هذه المرحلة بـ “الانتقال الديمقراطي”، أنها مساحة زمنية وتاريخية لخوض هذه المعارك جميعها، وأنها ليست فقط مجالا للصراع المادي والمصلحي، بل لصراع المفاهيم والمقاربات بين القديم والجديد كذلك، وهو صراع من النوع الثقافي والفكري، الذي يتطلب زمنا أطول قياسا بالصراع القانوني أو الدستوري، ولهذا يكون الزمن الانتقالي الديمقراطي غالبا، أطول من جميع أنواع التغيير السياسي الأخرى.
أنشأ الرئيس بن علي مجلس التنافسية، الذي يهدف من حيث المبدأ لحماية السوق من أكثر الآفات خطورة، الاحتكار الذي يضرب أهم مبادئ التجارة الحرة من منظور ليبرالي. وقد كان إنشاء المجلس لضرورات خارجية أكثر مما هو قناعة داخلية، فاتفاقيات الشراكة الاقتصادية مع الاتحاد الأوروبي والانضمام لمنظمة التجارة العالمية وغيرها كانت السبب الحقيقي لوجود مثل هذه الهيئات، وليس أدل على ذلك من بقاء مجلس التنافسية هيئة صورية، لا اثر لها في الدورة الاقتصادية، وان اصدر قرارات فلا تُطبَّق وتظل مناطا للاحتجاج الشكلي الذي لا يترتب عليه أي تغيير عملي.
علينا أن ندرك أن نظاما مثل نظام الرئيس بن علي رحمه الله، لا يمكنه أن يطيق مجلسا حقيقيا للتنافسية، فتحرير الاقتصاد بالمعنى الليبرالي، سيفضي إلى ظهور مراكز قوى اقتصادية ومالية غير خاضعة بالضرورة لسلطة النظام والقائد، وبمقدورها أن تلعب دورا سياسيا غير ملائم، أو متفق مع النظام، فالنظام في زمن بورقيبة وبن علي، هو وحده “الذي كان يغني ويفقر”، وهو ما جعل الطبقة البورجوازية الغنية ذات طابع احتكاري، بل إقطاعي، موالية تماما للسلطة، ولم تسجل لها طيلة عقود أية مواقف مناهضة للنظام إلا في ما ندر، حيث حوصر أمر المارقين، وعوقبوا أشد العقاب بتفقيرهم، وعلى الرغم من وجود معارضة محترمة في بعض المراحل، إلا أن هذه المعارضة لم تظفر يوما بأي دعم حقيقي من قبل الطبقة الغنية.
وعبر منوال “الرخص” (الترخيص المسبق) المتحكم في العملية الاقتصادية والذي ما يزال مستمرا إلى اليوم، تمكن النظام من تحديد المسموح لهم بالنشاط في قطاعات كثيرة تشكل تقريبا المجال الأكثر أهمية ضمن الاقتصاد من حيث المردودية والربحية، وهو ما ساهم اثر عقود من الممارسة في تشكيل كارتلات مغلقة ذات طبيعة عائلية أو جهوية أو فئوية ضيقة، غالبا ما قدمت فروض الولاء والطاعة للنظام الحاكم، كما قدمت ما يحدد لها من مساهمات وتبرعات.
نتذكّر جميعا التصريح الذي أدلى به قبل أشهر سفير الاتحاد الأوربي الذي تحدث عن احتكار 400 عائلة للاقتصاد التونسي، ثم انهالت عليه المطارق الإعلامية من كل جهة، فاضطر الرجل بالنظر إلى التزاماته الدبلوماسية للصمت والانسحاب، رغم أنه لم يجانب الصواب، فقد كشف أمرا مكشوفا للجميع، لكن الجميع لا يجرؤ على الحديث عنه، وعلى الرغم من الوعد الذي تقدمت به الحكومات الأخيرة بتحريك مجلس المنافسة، إلا أن أيا منها لم يفعل، ولا أظن أنه سيفعل، لأن الأمر ببساطة يتصل بأم معارك الزمن الانتقالي، معركة لا تطفو على سطح المشهد ولكنها مصيرية وحاسمة في نجاح التحول الديمقراطي من عدمه، وهي معركة لم تجعلها النخبة السياسية في متناول الرأي العام، لاعتبارات عدة سنأتي على ذكر بعضها.
وبعبارة أخرى، لقد صنع نظام بورقيبة “أغنياءه” وصنع نظام بن علي كذلك “أغنياءه”، فهل لدى النظام الديمقراطي نية في صنع “أغنيائه” الذين يشبهونه في طبيعته المنفتحة وقيمه الشفافة ومبادئه التنافسية ودولته التي يفترض بها محاربة الإقطاع والاحتكار.. ذلك أنّ التغيير الاقتصادي والاجتماعي والتنموي المأمول، رهين هذا التوجه الذي لم يحصل إلى الآن، رغم انقضاء قرابة عشر سنوات من الانتقال الديمقراطي.
إن التنافسية كما أشرنا إلى ذلك، هي أهم مبادئ السوق بالمعنى الليبرالي والديمقراطي، وهي عنوان الجانب الاقتصادي والاجتماعي في مشروع الديمقراطية الناشئة، ولهذا السبب فهي مناط معركة حقيقية وشرسة بين مراكز الاحتكار الاقتصادي وقوى التجديد والانفتاح، ونتيجة هذه المعركة هي التي ستحدد مستقبل الانتقال الديمقراطي بلا ريب.
لقد استفادت لوبيات الاحتكار المالي والإقطاع الاقتصادي من مميزات النظام الديمقراطي الجديد، الذي ابتعد عن منطق الثأر السياسي والانتقام الطبقي، مما ووفر فرصة لهذه اللوبيات لاختراق المنظومات الثلاث التي تقوم عليها الديمقراطية: الأحزاب السياسية ووسائل الإعلام والمجتمع المدني، كآلية للحفاظ على قدرتها في التأثير في مراكز القرار والسلطة، وهو ما تحقق لها نسبيا إلى الآن، لكن الديمقراطية وان اخترقت قادرة عبر قيمة الحرية من فرض شروطها على جميع اللاعبين، السياسيين والاقتصاديين أيضا، ولعل نزول رجال الأعمال بأنفسهم لخوض العملية السياسية والانتخابية ليس إلا وجها لهذه المعركة الشرسة، فنظام الوكالة الذي كان يعتمده “الكمبرادور” لم يعد مجديا أو مضمونا ومن هنا قراره الدفاع عن مصالحه بشكل مباشر.
وجه آخر لمعركة التنافسية، هو هذا التردد في إيجاد حل لمشكل “الاقتصاد الموازي”، فالطبقة الاحتكارية تريد من دولة أن تقضي على منافسها باعتبارها الممثل الوحيد ل”الاقتصاد الشرعي”، لا أن تجد له حلّا بإدماجه في الدورة الاقتصادية الوطنية، وَكما يقول خبراء الاجتماع فان الاقتصاد الموازي ليس سوى تعبيرة عن أولئك الذين لم يجدوا لهم مكانا في الاقتصاد الشرعي، والسبب هو غياب التنافسية والشفافية والطبيعة الإقطاعية التي كرستها الأنظمة التسلّطية للاقتصاد الوطني.
أما الوجه الثالث لهذه المعركة فذو صلة بتطلعات الجهات الداخلية إلى التنمية الشاملة والمستدامة، وهو ما يمثل تهديدا لمصالح المحتكرين الذين تكتّل عدد منهم في كارتلات جهوية لها نفوذها في الأجهزة الإدارية ووسائل الإعلام وعندها قدرة على “عرقلة” المنافسين أما عبر التعلّات القانونية التي يتفنن بعض أهل الإدارة في خلقها أمام أي باعث شاب، أو من خلال التشويه والضرب تحت الحزام عبر الميليشيات الفيسبوكية والإعلامية القائمة للحساب الخاص.
إن معركة التنافسية إذن، هي إحدى المعارك الرئيسية للانتقال الديمقراطي، تحتاج جهدا كبيرا لتوعية الرأي العام بها، كما تحتاج وحدة القوى المؤمنة بالتغيير الديمقراطي.
*رئيس المعهد العربي للديمقراطية