ماكرون والحنين إلى عهد الانتداب
بقلم / علي أنوزلا*
حقق الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، الأسبوع الماضي، أنجح حملة إعلامية عالمية في مساره السياسي، عندما قام بأكبر استعراض سياسي وسط بيروت وهي تحترق، فقد أظهرت رحلته المفاجئة إلى قلب المدينة، المنكوبة جرّاء الانفجار المروع الذي دمرها، شجاعة رجل السياسة الذي يعرف كيف يستثمر كل لحظة، بما فيها المأساوية بحس براغماتي نادر. صور الرئيس الفرنسي وهو يتفقد شوارع المدينة المدمرة، ويعانق بتلقائية سكانا فيها منكوبين وغاضبين، خطفت الأنظار، وجعلته يتصدّر عناوين الأخبار في كبرى وسائل الإعلام.
ما حققه ماكرون في ست ساعات، المدة التي استغرقتها زيارته لبنان، لم يجرؤ أي من الساسة اللبنانيين القيام به ومواجهة الشارع الغاضب، فبينما كان يجوب الأماكن المنكوبة في بيروت، ويصافح بعض أهلها المصدومين ويعانقهم، اختفى أغلب الساسة اللبنانيين، واكتفى بعضهم بعقد مؤتمرات صحافية من داخل معاقلهم الطائفية. أما على المستوى العربي، فقد ظهر الرئيس الفرنسي أكثر “عروبة” من كل الزعماء والقادة العرب، وهو يتفقد عاصمة عربية تحترق، ويخاطب أهلها على صفحته بـ “تويتر” بلغة عربية فصيحة، يقول لهم “لبنان ليس وحيدا”، في إشارة واضحة إلى العزلة العربية المفروضة عليه، وخصوصا من دول في الخليج، فرضت عليه “حصارا” غير معلن بسبب اختياراته السياسية ولون حكومته المستقيلة.
الأكيد أن زيارة ماكرون إلى بيروت لم تكن إنسانية من رئيس دولةٍ شقيقةٍ، جاء ليتضامن مع شعب منكوب، وإبداء التعاطف معه في وقتٍ كان سيده الذهول، وإنما أرادها هو أن تكون بطعم سياسي، عندما حمل بلغةٍ قاسيةٍ ومباشرةٍ على الطبقة السياسية اللبنانية التي وصفها بالفاسدة، وعلى النظام اللبناني السياسي والمصرفي الذي دعا الشعب إلى تغييره. وهذه أول مرّة يقوم فيها رئيس دولة أجنبية، في خرقٍ واضح ومستفز لجميع الأعراف السياسية والدبلوماسية، ويدعو صراحة، ومن قلب عاصمة دولة مستقلة، شعبها إلى الثورة ضد ساسته ونظامه. سيبقى صدى كلمات الرئيس الفرنسي القاسية يتردّد وسط خرائب بيروت، ليس لأنها انتقدت النظام العشائري في لبنان، ووجهت انتقادات حادّة إلى طبقته السياسية الفاسدة التي حملها مسؤولية المآسي التي يعيشها بلدهم منذ سنوات، فهذا تحصيل حاصل يعرفه القاصي والداني، وإنما لأنها صدرت عن رئيس الدولة التي كانت تستعمر لبنان سابقا، وما زال يشد بعض ساستها حنين إلى عهد الانتداب الفرنسي على المنطقة، بفرض وصايتهم وإملاء تعليماتهم، ليس على حكامها فقط كما كان في الماضي، وإنما على شعوبها بدعوتهم إلى الثورة والخروج على ساستهم وقلب أنظمتهم وتغييرها.
يعرف ماكرون، قبل غيره، أن دعوته إلى ميثاق سياسي جديد في لبنان، لا تعدو مجرد صرخة في واد، لأن النظام السياسي في لبنان معقد، ولا يمكن وضع حد له كما دعا إلى ذلك هو نفسه بمجرّد تشكيل “حكومة وحدة وطنية”. أما طبقته السياسية التي اتهمها بالفساد، فلا بديل للبنانيين عنها، لأنها جزءٌ من نسيج النظام الطائفي الذي تقوم على أركانه الدولة اللبنانية منذ استقلالها. يدرك ماكرون كل هذه الحقائق، وهو ما يجعلنا نتساءل: ما الذي دفعه إلى الهرولة إلى مكان الحدث، وهو ما زال يشتعل، وتوجيه خطابه الناري ضد طبقة سياسية مُنهكة، يعرف أنها لن تستطيع أن ترد على انتقاداته المتغطرسة؟ والجواب عن بعض من هذا السؤال نجده في تصريح لماكرون على منتقديه بالتدخل في سياسة لبنان، عندما قال بصريح العبارة: “إذا لم تلعب فرنسا دورها.. فسيكون التدخل من قوى أخرى: ستكون إيرانية، وستكون تركية، وستكون سعودية، وستكون أكوامًا من قوى أخرى في المنطقة”.
صحيح أن العلاقة بين لبنان وفرنسا وثيقة، ومتشابكة يتداخل فيها التاريخي مع الثقافي والسياسي والهوياتي. وليس من المبالغة القول إن فرنسا هي التي رسمت حدود لبنان الحالي، ووضعت البلد حرفياً على الخريطة، وهي أول من وضع اللبنات الأولى لنظامه الطائفي الذي يقوم على التوازن بين مختلف الطوائف والأديان والمصالح. ومنذ غادرت فرنسا لبنان عام 1943، كان اختيار رئيسه من المجتمع المسيحي، ومن الطائفة المارونية تحديدا وبصلاحيات واسعة في عهد الحكم الفرنسي، ورئيس وزرائه من المجتمع المسلم، وجاء اتفاق الطائف عام 1989 ليكرّس هذا التقسيم الطائفي للسلطة على مبدأ “التعايش المشترك”، وظلت للشيعة رئاسة مجلس النواب. وعلى الرغم من أن اتفاق الطائف حدد إلغاء الطائفية السياسية أولوية وطنية، إلا أنه لم يحدّد إطاراً زمنيا للقيام بذلك، وهو ما أدّى بالوضع إلى ما هو عليه.
وحتى بعد الاستقلال، حافظت الطبقة الحاكمة في لبنان، ليس فقط من بين المسيحيين وإنما من طوائف أخرى، على علاقات جيدة جدًا مع “الدولة الأم” فرنسا، ويعيش اليوم عشرات آلاف من اللبنانيين أو المنحدرين من أصل لبناني في فرنسا. وفي المقابل اختار آلاف الفرنسيين العيش في لبنان. وما بين البلدين نسجت، على مر السنين، علاقات اقتصادية قوية وروابط ثقافية متينة. لذلك رأى لبنانيون كثيرون في زيارة ماكرون بلدهم خطوة طبيعية، ونظر إليها الفرنسيون استعادةً لحضورهم التاريخي في منطقة جيواسترتيجية حساسة، ما زالت تتقاطع فيها مصالح القوى العظمى.
ولكن، هل تمنح كل هذه العلاقات التاريخية والثقافية لرئيس دولة أجنبية أن يخاطب ساسة دولة مستقلة بتلك اللغة الاستعلائية التي خاطب بها ماكرون ساسة لبنان من قلب بيروت؟ الجواب متروك للنخبة السياسية والمثقفة في لبنان، خصوصا الذين يرفضون منطقة “الانتداب” الذي يطالب بعودته بعض اللبنانيين صراحة ويحن إليه، سرّا، بعض ساسة فرنسا، وماكرون ليس أولهم ولن يكون آخرهم، وإنما هو أفصحهم.
* صحافي وكاتب مغربي، مدير ورئيس تحرير موقع “لكم. كوم“، وحاصل على جائزة (قادة من أجل الديمقراطية) لعام 2014، والتي تمنحها منظمة (مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط POMED).
المصدر: موقع “العربي الجديد”