التجمعيون: من كابوس إقصائهم… إلى حلم إقصاء غيرهم !؟
بقلم / خالد شوكات*
نشرت مقالا يوم 17 جانفي 2011 في جريدة “إيلاف” الالكترونية واسعة الانتشار، أعيد نشره في جريدة السياسة الكويتية، طالبت فيه ثلاثة أيام بعد الثورة فقط بمنح التجمع الدستوري الديمقراطي حق إعادة بناء نفسه، مثلما منح الحزب الشيوعي الروسي ذات الحق بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.
كنت حينها خائفا من فقدان بلادنا التوازن السياسي المطلوب، واتجاهها من جديد إلى حكم طرف واحد قوي وتسلطي، تحت شعارات جديدة.
وبمجرد عودتي إلى أرض الوطن، أياما قليلة بعد نشر المقال، بادرت إلى الاتصال ببعض الشخصيات التجمعية المعروفة، ذات السيرة النظيفة، من أجل البحث في موضوع إعادة بناء الحزب، من بينهم سي محمد الغرياني، وسي كمال مرجان، وسي محمد جغام، وهم على قيد الحياة جميعا، لا شك عندي في أنهم يتذكرون حديثي معهم ومسعاي في تلك اللحظات العصيبة، التي توارت فيها أغلب الوجوه التجمعية، خوفا على النفس من توابع اللحظة الثورية، إلا ما ندر، وهم قلة قليلة تسلحوا بالشجاعة، ليس فيهم كثير ممن أراهم اليوم عادوا لرفع شعارات فاشية إقصائية.
بعد ذلك بشهرين تقريبا، جرى حل التجمع، وكان لافتا حضور عبير موسي، كمحامية، وتعرضها على أيدي زملائها لما تعرضت له من تعنيف، جراء دفاعها عن الحزب، ومثلما اقتضت النزاهة، الإشارة إلى هذا الأمر الذي تابعه غالبية التونسيين حينها، فإن النزاهة تقتضي أيضا، الإشارة إلى ما أخبرتني به حينها بعض القيادات التجمعية رفيعة المستوى، ومفادها أن حظر الحزب مردّه الأخطاء الإجرائية التي ارتكبتها عبير، باعتبارها لسان الدفاع حينها.
وشهرا بعد ذلك، نشرت مقالا يوم 6 أفريل 2011، بعد إصدار رئيس الحكومة سي الباجي رحمه الله، مرسوم منع التجمعيين من الترشّح لانتخابات المجلس الوطني التأسيسي، بعنوان “أبالإقصاء سنبني تونس الديمقراطية؟”، كان عبارة عن رسالة احتجاجية مفتوحة، تدعو إلى التراجع عن كل سياسة إقصائية، وتطالب بالمصالحة الوطنية، كقاعدة نقيم على أساسها مسار الانتقال الديمقراطي.
وقد استمر شعور التجمعيين بالغبن، وإحساسهم بالدونية إلى غاية 2014، أي بعد تأسيس سي الباجي لـ “حركة نداء تونس”، بما يقارب ثلاث سنوات، ولم يكن سي الباجي نفسه يجرؤ على تمثيل القيادات التجمعية المعروفة في الهيئات القيادية العليا، مفضلا إشراك بعض الوجوه الشابّة من الصفوف المتأخرة بعدد محدود، وعلى مستوى الدرجة الثانية غالبا، ومع ذلك فقد كان أداء هؤلاء كارثيا، وكانوا غالبا سببا في تشويه صورة النداء، جراء ضعف تكوينهم السياسي، وغلبة محدد “الغنيمة” عليهم.
وقد بقي التجمعيون داخل النداء (أصبحوا يفضلون نعتهم بالدساترة، كما سيصبحون لاحقا بورقيبيين لا بن عليين)، يتذوقون طعم الحسرة والمرارة، حتى أعاد إليهم سي الباجي الاعتبار، عندما خطب في مارس 2014 في قصر هلال، مرددا عبارته المشهورة “الدساترة ملّاكة في النداء وماهمش كرّاية”، مثلما كان رحمه الله يذكّر باستمرار، بأنه الدستوري الأعرق حيث انتمى للحزب سنة 1941.
وقد كنت أسمع طيلة السنوات الأخيرة المثيرة، الكثير من القيادات الحزبية الدستورية التجمعية، ما يؤكد على أن غاية ما يتطلعون إليه ويحلمون به، الإنصاف والمصالحة والمساهمة في بناء تونس الجديدة.
وللحقيقة أقول، إن عددا كبيرا من بينهم، يذكرون فضل سي الباجي على الدساترة، وكذلك النداء، ويرون أنه ساهم في رفع رؤوسهم من جديد، وإعادة الاعتبار لهم، كبناة للدولة الوطنية المستقلة، خصوصا بعد انتصار النداء في انتخابات أكتوبر 2014 التشريعية والرئاسية.
عليّ أن لا أنسى ذكر شيء مهم في هذا السياق، وهو سماح حكومة الترويكا للمرحوم الدكتور حامد القروي، بتأسيس الحركة الدستورية، وكان عند سي الباجي، وعند عدد من القيادات الندائية، من بينهم كاتب هذه الأسطر، شعور بأن هدف الترويكا آنذاك، هو الحد من شعبية نداء تونس في الأوساط التجمعية والدستورية، وهو ما لم يحدث جراء كاريزما سي الباجي الطاغية آنذاك.
كما علي أن أذكر أيضا، بأن فشل تمرير قانون الإقصاء الثاني سنة 2014، يعود كذلك للدور الذي لعبه سي الباجي، والتوافقات التي أجراها مع الشيخ راشد الغنوشي، منذ لقاء باريس الشهير، وقد نزل هذا الأخير بكل ثقله لدى حزبه وكتلته النيابية، حتى لا يمرر قانون التطهير السياسي، وهو ما كان يفترض أن لا ينساه التجمعيون، لكن بعضهم سرعان ما نسي فيما يبدو، نسيانهم لكونهم كانوا يحتفلون كل عام بعيد سقوط الزعيم بورقيبة، الذي يرفعون صوره بكل “بجاحة” اليوم.
لقد سمعت مباشرة من كثير من القيادات التجمعية البارزة، بأن الثورة كانت خلافا لما قد يتبادر للذهن، فرصة لتخلص العائلة الدستورية من الطبيعة الفردية والتسلطية للأنظمة السياسية المتعاقبة، ولإعادة بناء حزب الدستور كقوة ديمقراطية، تراهن على الصندوق فقط للوصول إلى السلطة، كما تراهن على تأسيس علاقات طيبة وتنافسية مع بقية العائلات السياسية، وعدم المغامرة بالتالي، لا بالدولة ولا بالحزب، لكي لا يعيش الدساترة مرة أخرى أياما عصيبة، كتلك التي عاشوها بين 2011 و2014.
لكن يبدو أن طبع الإنسان النسيان والتنطع، وعدم الاعتبار بدروس الماضي القريب، فما عودة بعض التجمعيين السريعة، تحت قيادة الزعيمة عبير، إلى تبني شعارات إقصائية وفاشية، إلا دليلا على أن خطاب بعض الإقصائيين الثوريين في السنوات الأولى، لما بعد الثورة، وتحذيراتهم لم تكن آتية من فراغ، وأن المراجعات الفكرية الضرورية التي تقطع مع الأجندات الاستبدادية لم تحصل بطريقة كافية، وهو ما قد يدفع البلاد إلى سيناريوهات كريهة، إذ واهم من يعتقد أن بناء نظام حكم فردي تسلطي، مسألة ما تزال متاحة، وواهم من يظن أن التونسيين في غالبيتهم، يمكن أن يقبلوا بذلك.. أقصى ما قد ينجزه هؤلاء صناعة مزيد من الفوضى وإنهاك الدولة.
كنت أقول دائما، إن الديمقراطية اختراع جماعي، وإن أول من رفع شعار الإصلاح السياسي بمضمون ديمقراطي تعددي، كانوا “دساترة”، فلا أحد يحق له من بقية العائلات السياسية، المزايدة عليهم، أو زعم أنه ديمقراطي أكثر منهم، وقد دافعت من هذا المنطلق عن تجربة التوافق، لتقديري أن الديمقراطية، هي مشروع توافقي بالضرورة، ولكن هذه الأصوات المخيفة من داخل العائلة الدستورية، لا يمكنها إلا أن تضعف أصوات الحكمة والتوافق والاعتدال، وتفتح مستقبل بلادنا، وتجربتنا الديمقراطية الواعدة على المجهول.. أصوات تعبر عن تجربة السلطة والغنيمة، أكثر مما تعبر عن المرجعية الوطنية الإصلاحية لحزب الدستور.
* وزير سابق، وناشط سياسي