“الحياد” الدبلوماسي.. ذريعة “ميتافيزيقية”
بقلم / صالح عطية
جزء مهم من نقاشات النخب السياسية في البلاد، يتمركز حول موضوع “الحياد” في القضايا والملفات ذات العلاقة بالدبلوماسية التونسية.
ويبدو هذا الأمر جليّا، كلما تعلق الأمر باتصالات أو مقابلات أو زيارات يقوم بها رئيس البرلمان إلى تركيا أو قطر، أو مكالمات هاتفية مع مسئولين ليبيين.
وبلغ الأمر حدّ رفض تنظيم جلسة عامة برلمانية لمناقشة اتفاقيتين استثماريتين مع تركيا وقطر..
ولعلّ ما زاد الطين بلّة، مكالمة رئيس البرلمان مؤخرا، فائز السراج، هاتفيا لتهنئته بدحر قوات خليفة حفتر من قاعدة “الوطية” الجوية، الذي وصف من قبل مراقبين بــ “النصر الاستراتيجي” لحكومة “الوفاق” الليبية.
منطق الأشياء هنا، هو أن تبادر النخب التونسية، من داخل الدولة ومن خارجها، باتخاذ موقف إيجابي مما حصل، على أساس أنّ أيّ نهاية للصراع في ليبيا، سيكون بوابة لأفق تونسي مهم في المرحلة القادمة.
غير أنّ “زراديب” السياسة، والحسابات السياسوية، والإصطفافات الإقليمية، والخلفيات الإيديولوجية، حوّلت “نصر” الحكومة الليبية، إلى مشكل تونسي، وفاتحة لمماحكات سياسية وحزبية وبرلمانية، انتهت بتحديد جلسة برلمانية الثلاثاء، لمناقشة الدبلوماسية البرلمانية الراهنة، و”سلوكيات”، رئيس مجلس نواب الشعب، راشد الغنوشي.
والاتهام الأساسي الموجّه لــ “الشيخ”، يتعلق بابتعاده عن “الحياد”، واختياره “التخندق” ضمن المحور التركي ــ الليبي ــ القطري، الأمر الذي جعله “يتحرك” خارج إطار الدبلوماسية التونسية الرسمية، وفق هذه الأطراف..
من هنا، نشطت الدعوات لإزاحته من رئاسة البرلمان، وعزله، فيما يصفها مناصروه وحلفاؤه، بــ “محاولة الانقلاب” عليه، وعلى النظام السياسي شبه البرلماني ككلّ..
فهل نحن أمام حرص حقيقي على الدبلوماسية التونسية، وإلى أي مدى يمكن الحديث اليوم في عالمنا الجديد عن “منطق الحياد”؟ وأيّ مضمون لهذا “الحياد”؟ أم أنّ الدبلوماسية تستخدم كذريعة، تثوي خلفها مآرب أخرى؟
محور إقليمي أيضا
لا شكّ أن المطالبين بالحياد، والناقدين لمواقف رئيس البرلمان، في علاقة بهذا الملف، الملف الليبي والتركي تحديدا، ينتمون إما للنظام القديم (الحزب الدستوري الحر وبعض مكونات كتلة الإصلاح)، أو لعائلة سياسية وفكرية (حتى لا نقول إيديولوجية)، تنظر إلى التطورات الليبية الأخيرة، كعنوان دعم لخصمهم السياسي في تونس (حركة النهضة)، ومن شأنه تقويته سياسيا وشعبيا، وفي مستوى علاقاته الإقليمية، بما يساهم في تطبيع وضعه هنا وهناك، في وقت يحرصون فيه، على إضعافه وإرباكه وهرسلته، لإنهاكه انتخابيا في مرحلة لاحقة، سيما وهو يستعدّ لمؤتمر الحزب، الذي يتوقع أن يكون عاصفا، وفق بعض التقديرات..
ولأنّ المعارك الفكرية والهووية والحقوقية، حسمت دستوريا، ولم تعد إثارتها تغري أحدا، فإنّ خصوم “الحركة”، اتخذوا من المجال الدبلوماسي، إطارا لاستمرار أجندة الإرباك هذه.. لذلك اعتبروا مكالمته للسرّاج، خروجا عن الدبلوماسية التونسية، ومحاولة لجرّ تونس في “لعبة المحاور” الإقليمية… وكأنّ هؤلاء في منأى عن “المحاور”، والإصطفافات الإقليمية..
الحقيقة، التي يدركها الجميع، أنّ هؤلاء جميعا، يتخفون وراء مقولات “الحياد” و”لعبة المحاور”، لأنهم ينطلقون بدورهم من علاقات وتحالفات معيّنة، ويتحركون بموجب “محور إقليمي” آخر، يقف على النقيض تماما من المصالح التونسية… ونعني هنا، المحور الإماراتي ــ السعودي، مع سوريا الأسد، وبقايا نظام القذافي، ممثلا باللواء المتقاعد، خليفة حفتر، ونظام السيسي، حاكم مصر.. ومن ثمّ، فصراع هؤلاء ليس من أجل الدبلوماسية التونسية الجديدة، إنما كذلك، دفاعا عن مصالح وأطماع محور إقليمي، وحفاظا كذلك على تحالفهم معه، وحجم الدعم الذي يتلقونه (أو بعضهم على الأقل) منه، سياسيا وإعلاميا.. وغير ذلك..
لنكن على قدر من الوضوح قليلا…
فمعارضة رئيس البرلمان، والوقوف ضدّ اتصالاته باللليبيين والأتراك، ليس الهدف منه، “حماية الدبلوماسية التونسية”، إنما هي محاولة لمنع رئيس البرلمان، راشد الغنوشي، من استخدام علاقاته الإقليمية والدولية، وتوسيع دائرتها، بشكل يجعل حزبه (حركة النهضة)، مستفيدا من هذه العلاقات والتحالفات، وبالتالي، منع خصمهم السياسي والانتخابي، من أدوات تمدده ضمن الإستراتيجيات المستقبلية للدولة التونسية، ومحاولة حصره في “الزاوية المحلية”، حتى لا يغنم من ذلك شيئا على الصعيد السياسي والشعبي، ويظلّ بالتالي، سجين الصراعات التونسية، التي باتت محل امتعاض الجميع، الساسة، وإطارات الدولة، والجهات الخارجية.. قبل الرأي العام التونسي.
الموقف من ليبيا.. جزء من “الشرعية”
والسؤال الذي يبقى مطروحا هو:
هل في اتصالات الغنوشي بالسرّاج، أو بالرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، ما يسيء إلى الدبلوماسية التونسية؟
على حدّ علمنا، تركيا وليبيا، دولتان صديقتين وشقيقتين لتونس، ولها معهما اتفاقيات ومعاهدات وتعاون سياسي وعسكري واستخباراتي واقتصادي وتجاري، ينتمي أغلبه إلى حقبة ما قبل الثورة، ولم يتهم بن علي أنذاك، أو رؤساء البرلمان السابقين، بمحاولة جرّ تونس وراء محاور إقليمية..
بل حتى الراحل، الباجي قايد السبسي، لم تحصل له ضجّة مماثلة عندما استقبل الرئيس أردوغان، ووقع معه اتفاقيات، ونسّق معه الموقف من الوضع الليبي، قبل مؤتمر باريس..
لا نعتقد، لمزيد التوضيح، أنّ اتصالات رئيس البرلمان بالسرّاج، عقب دحر قوات حفتر من قاعدة “الوطية”، جنوب ليبيا، موقفا منافيا للدبلوماسية التونسية، أو مناقضا لما أعلن عنه رئيس الدولة..
ألم يرفع الرئيس، قيس سعيّد منطق “الشرعية الدولية”، وهي ليست سوى الاعتراف الأممي في علاقة بالموضوع الليبي، معلنا بهذه الصورة، مساندته للحكومة الشرعية (حكومة السرّاج)، المعترف بها من قبل الأمم المتحدة ؟
فهل خرجت مكالمة الغنوشي للسراج، عن هذا الإطار ؟
لا نعتقد ذلك، بل لا نتصور أن رجلا مثل الغنوشي، يمكن أن يتورط في موقف معارض بهذا الشكل لدبلوماسية الدولة، وهو يعلم أنّ أعداد المتربصين به، أكثر من المساندين أو المتماهين معه..
المعركة.. سياسية
القضية عندئذ، سياسية، تصبّ في قلب الصراع السياسي المحموم في تونس على التموقعات صلب الدولة.. وثمّة بالطبع من لا يقبل بأن تكون حركة تنتمي للعائلة الإسلامية عموما، جزء من الدولة، ويقلقهم إلى حدّ الانزعاج، وجود الغنوشي على رأس البرلمان، ومتحدّث للإقليم والعالم، باسم إحدى أهم مؤسسات الدولة في النظام السياسي التونسي الجديد.. ونعتقد أنّه حان الوقت اليوم، لكي يكشف البعض حقيقة خلافاته مع الأطراف السياسية الأخرى، بعيدا عن هذه العناوين التي تستخدم للتمويه، ضمن صراع، يريد له البعض أن يبقى بعناوين هلامية، و”زخارف” سياسية، من قبيل “الدبلوماسية التونسية الرسمية”، والحال أنّ بعضهم ينتقد عاليا عدم وجود دبلوماسية واضحة لتونس في هذه المرحلة..
يا ليت نخبنا، تنهمك في مناقشة أفق الدبلوماسية التونسية في هذا الوضع الدولي الجديد، بدلا من عمليات التضليل، المقصودة أو غير المقصودة..
إنّ الدبلوماسيات الحديثة، دبلوماسيات متحركة، ثوابتها في قدرتها على التموقع الدولي، ضمن النظام العالمي الجديد، الآخذ في التشكّل، وفي أسلوبها القادر على جلب المصالح للبلاد، بعيدا عن التصورات القديمة، التي لم تعط الدبلوماسية التونسية ــ بله العربية ــ شيئا يذكر، عدا بعض الشعارات الفضفاضة، والمساندة القوية لأنظمة الاستبداد والفساد، وانخراط في تخلف شعوبنا، ومن ثمّ سدّ الطريق أمام أيّ فرصة للانطلاق مجددا، في عالم تنطلق شعوبه من جديد، بأفق مغاير لمرحلة الستينات والسبعينات والثمانينات من القرن المنقضي، التي ما يزال البعض سجينا لها، ولمعاركها وصراعاتها..
إنّ “الحياد”، يكاد يتحوّل إلى مقولة ميتافيزيقية، تستخدم للمغالطة والتمويه والتضليل السياسي والإعلامي..
فلا ينبغي لتونس، أن تكون محايدة، إلا إزاء الدول المستبدّة، ومحاور البورجوازية الكمبرادورية من بعض المال الخليجي المضيّع لثروات الأمة… محايدة إزاء الكانتونات السياسية لأنظمة، تستعدي تحرر شعوب المنطقة، وتتآمر لإسقاط معاقل الديمقراطيات الناشئة… محايدة إزاء دول تريد أن تشتري الموقف التونسي وترتهنه، مقابل النكوص عن ثورة شعب، ومخرجاتها الديمقراطية، واستحقاقاتها المفتوحة على احتمالات التقدّم، وإن أخطأت النخب الحاكمة، أو ضلّت الطريق لبضع سنوات..
الحياد، بوضوح، هو منطق قديم لعقول قديمة، ما تزال سجينة معارك وإيديولوجيات وصراعات إقليمية ودولية، هي في كلّ الأحوال، جزء مما قبل الحرب الباردة، ومن زمن الأنظمة والدبلوماسية التوتاليتارية..
الحياد، جزء من وضع إقليمي ودولي، انتهى بانتهاء شروطه وملابساته ومعطياته..
وكم هو مفيد للتجربة التونسية، أنّ ترتقي نخبها بصراعاتها إلى مستوى المحامل الفكرية والسياسية والاقتصادية، فتكون سندا ودعما قويا، لطموحات وتطلعات شعب ونخب وجيل جديد، ما يزال يأمل من طبقته السياسية، أن تكون جزءا من اللحظة التاريخية الجديدة..
أما الارتهان لأجندة إقليمية، والدفاع عنها، وعن خرابها الذي تنشره في كامل أرجاء العالم العربي، من ليبيا، مرورا باليمن، وصولا إلى سوريا، ومن ثمّ ليبيا، فلن يفيد الوضع التونسي، ولن يثمر شيئا على صعيد خدمة قضايا شعبنا، الذي ما يزال ينتظر الكثير من نخبه وطبقته السياسية..
المطلوب قليل من العقلانية، وكثير من البراغماتية.. وشيء من الحكمة الهيجلية، التي نحتاجها جميعا في مثل هذه الأوقات..