رمضان زمن الكورونا.. وتعزيز “ديمقراطية الكردونة”
بقلم / خالد شوكات
ثمّةَ أمران أودّ الإشارة إليهما حتّى لا أفهم خطأ، في “زمن اتصالي” أصبح الفهم الخطأ فيه، هو الأصل الغالب، والاستثناء أن يقرأ المقال – إن قُرِئ طبعاً – باعتباره جملة أفكار يجب أن تناقش بموضوعية بعيدا عن الشخصنة:
ـــ الأمر الأوّل: أن الفقر هو فعلا إحدى قضايا بلادنا الكبرى، وأن شريحة الفقراء بعد الثورة قد اتسعت، رغم أن الأرقام الرسمية تشير إلى خلاف ذلك.
ـــ الأمر الثاني: أن مساعدة الفقراء هي من أسمى الأعمال الدنيوية وأسمى العبادات الدينية، بل لا يوجد عمل أعظم منها، خصوصا إذا ما كان الزمن مزدوجاً، شهر رمضان المبارك الذي يتضاعف فيه أجر المحسنين، ومرحلة الحجر الصحي بسبب جائحة كورونا التي قطعت أرزاق الفقراء وضاعفت حاجتهم إلى المساعدة.
في مقابل هذين الأمرين لا مناص من التذكير بمحدّدين أساسيين بخصوص ممارسة الإحسان ومساعدة الفقراء، أحدهما ديني والثاني دنيوي:
ـــ المحدّد الأوّل: أن مساعدة الفقراء والتصدُّق عليهم يستحسن فيه أن يكون سرّيا خاليا من شبهة الرياء، حتّى لا تعلم شماله ما قدَّمت يمينه.
ـــ المحدّد الثاني: أنّ للدولة “واجبات اجتماعية” وليس لها تقديم “مساعدات خيرية”، اذ للمواطنين -وفي مقدّمتهم الفقراء- حقوقا دستورية وقانونية وجب احترامها، ومن واجب مؤسسات الدولة رئيسا وحكومة أن يعملوا على صون كرامة المواطنين، لا تحويلهم من “مواطنين” إلى “متسوّلين”.
نأتي الآن إلى جوهر الموضوع الذي أوّد إيجازه في جملة من النقاط كما يلي:
** إن شيوع “ثقافة الكردونة” أصبح تهديدا أساسيا، إن لم يكن التهديد الأكثر خطورة، للعملية الديمقراطية، ولمصداقية مسار الانتقال الديمقراطي، فإذا ما اعتمدنا “الانتخابات” باعتبارها المعيار الأول في تقييم الأنظمة السياسية ومدى ديمقراطيتها، أصبح جليًّا أن الحملات الانتخابية لم ترق بعد إلى مستوى التنافس البرامجي، بل أضحت مجالا لـ “التنافس الكردوني”، فحظوظ المرشحين تتصاعد بقدر قدرتهم على “امتلاك الكردونة” وتوزيعها.
** يمكن القول بأن “الكردونة” أصبحت إحدى المؤسسات الانتخابية الثابتة، لها أعراف وأصول وتقاليد تراعى، ولها شبكات وميليشيات وقادة وزعماء وطنيا وجهويا ومحليا، حتى أن الاعتراف بهذه المؤسسة أضحى أهم عناوين الواقعية السياسية، فمن لا شيء عنده يقدمه للناخبين غير الأفكار ولا البرامج، ولا كردونة له بالتالي يهديها، عليه أن يحفظ قدره وينسحب من السباق الانتخابي، ويمكن بسهولة لأي متابع أن يلاحظ أن الكردونة، ربّما كان لها “نوّاب” أكثر من بعض الأحزاب، بل إن بعض النوّاب ليس من مبرر لوجودهم في المجلس إلا الكردونة.
** لقد ارتقى شأن الكردونة تدريجيا، انطلاقا من اللحظة الثورية إلى الآن، حتى أصبحت لها “أحزاب” تدين في وجودها بالكامل لـ “الكردونة”، ولعل أحدا لا يجرؤ اليوم على إطلاق مشروع سياسي قادر على المنافسة الانتخابية، إلا إذا تأكد أوّلاً من قدرته على تقديم الكردونة، هكذا ينصحه العارفون بخصائص الشعب الكريم.
** لقد طال الانحراف كذلك الناخب، الذي أصبح يطالب جَهْرًا بالكردونة ولا يرى فيها عيبا، بل يراها الحد الأدنى الذي يمكنه الحصول عليه. ولا يتردد هذا الناخب في القول “فلان لم نر منه شيئا، وعلّان شحيح لا خير يرجى منه..”، خصوصا وأن مناسبات تقديم الكردونة أضحت متعددة، فالانتخابات التي أصبحت كثيرة ومتواصلة، غالبا ما تكون مسبوقة بموسم يستحق فيه المواطنون الفقراء المساعدة، عيد أو رمضان أو دخول مدرسي أو “كورونا”. ولهذا يختلف محتوى الكردونة بحسب طبيعة المناسبة، من المواد الغذائية إلى اللوازم المدرسية.
لا يمكن الاستهانة بهذه الظاهرة إذن، فهي ذات صلة بجوهر الديمقراطية ومصداقيتها، وعدم الوقوف وقفة حازمة تجاهها، سيفضي عمليا إلى “ديمقراطية مهزلة”، كتلك التي أفرد لها الروائي التركي عزيز نيسين، عددا من رواياته الساخرة، فالتعددية الحزبية والحرّية السياسية، والانتخابات الدورية جميعها، قد تتحوَّل في ظل “ديمقراطية الكردونة”، إلى مجرّد شكليات تخفي حقائق مفزعة.
إن رئيس الجمهورية الذي جاء به الشعب من خارج الطبقة السياسية، كتعبير منه عن رغبته في مواجهة “ساسة الكردونة”، نراه ويا للأسف ينخرط في إذكاء هذه الظاهرة، وهو أمر محزن بلا شك، وان كانت دوافعه بريئة، ولكن السياسة تظل صورًا راسخة وانطباعات يصعب زحزحتها أحياناً. إن “الكردونة” يجب أن تكون وظيفة المجتمع المدني، وتحديدا وظيفة منظمات خيرية مدنية خالصة لا شبهة حزبية أو خارجية تلاحقها. أما الدولة فوظيفتها مكافحة الفقر مع الحفاظ والارتقاء بكرامة المواطنين، فالمواطن المتسوّل ليس مواطنا حرًّا يمنح صوته لمن يستحق، بل يمنح صوته لمن يدفع.