الجائحة الإعلامية / نقد الخطاب الصحي – السياسي والفكر الكوروني السائد
بقلم / صلاح الداودي*
يبدو أطباء العالم الرسمي هذه الأيام في العالم كله (ولا نتحدث هنا عن الأطباء والصحيين المحاربين الأحرار الصامتين غالبا والمنتشرين في كل جبهات العالم تضحية ومثابرة، وإنما عن الخطاب الصحي السياسي السائد)، يبدو هؤلاء الأطباء الرسميين في ثوب غير ثوب هيبوكراط وفي غير ثوب “أطباء الحضارة” من خطاب الحكمة الفلسفي الطبي والانساني، إلى الخطاب الشعري والفني عامة، إلى الخطاب النبوي إلى الخطاب العلمي المقاوم. حيث لدى الناس انطباع أنهم منصاعون عاجزون محتارون مهادنون ولا يقودون معركة شرسة ضد حكام متواطئين وفروا الفرصة للعدو الفيروسي بدخول حرب غير متكافئة لا يكاد فيها الطبيب نفسه يحصل على كمامات وكفوف، فما بالك بعامة الناس من حيث العلاج واللقاح.
توجد نوازع شتى وفوضى عارمة تحاول أن تفرض نسقا من الانطباع العالمي العام حول كوفيد تسعة عشر كفكر كوروني لا يمكن أن يكون فكرا بالمعنى النبيل وتفكيرا كورونيا لا يمكن أن يكون فلسفة حياة بأي حال من الأحوال. انها دكتاتورية كورونا ملخصة في الذهنية الفيروسية الكورونية تعززها المخاوف الأمنية من الأشباح القائمة والمحيطة الكامنة في كل تفاصيل العيش وتحت سطوة الفيروسية الاقتصادية لكوفيد، لا سيما وان كل هذا، أي كل هيئات الكورونا هذه ونظامها سابقة حقا بالفعل وبالقوة في اذهان الناس.
هي على الأرجح جائحة إعلامية معولمة توزع انطباعا يوميا على العالمين بأن عليهم أن ينقادوا إلى طور من الحياة البشرية تدخل فيها أدوات الحرب المجهولة زورا وعبثا إلى كل بيت وتفرض عليه الاستسلام دون قتال في موجة تحذيرية هذه المرة. وربما تكون موجة أخرى لا يكون فيها البيت حصنا لأحد ولا يكون الهواء والماء ونور الشمس والتراب أصدقاء لأحد. أجل إلى هذا الحد يصل الهوس البشري وله ما يبرره في مستوى التوحش والإرهاب والاجرام الذي بلغه عالمنا في عصرنا هذا وبنمط الحكم المعولم هذا، ومن حسن الحظ ان أصدقاء كورونا الغربيين وقعوا بعد في فخه لتتوضح حقيقة هذا النظام المعولم عارية.
تحتاج الإنسانية وسط كل هذا، خطاب حرب فعلية موجه ضد أعداء الإنسانية وأعداء الحياة. خطاب حرب يستهدف ترسانة الحرب البيولوجية، من أسلحة وخطط ومختبرات ومصانع وسياسات وشركات ودول، ويهدف إلى غاية سامية هي السلام البيولوجي في عالم خال من الأسلحة الجرثومية والكيميائية والنووية… الخ.
الإنسان.. والسكينة
يحتاج الإنسان أيضا إلى السكينة الأهلية أي إلى سكنى أهلية (لا مجرد سكن)، سكنى للحياة والطبيعة والعالم والبيوت، آهلا لا هاربا محتميا بالبيوت كما يروج تحت عبارة “الاحتماء بالبيوت” وصيغتها الإعلامية الصلفة: “البقاء في المنازل” وصيغتها الأمنية الطبية الفجة: “الحجر المنزلي”. سكينة أهلية نترجمها أيضا كهجر جماعي وكاعتزال اجتماعي لضرورة صحية حياتية مقدسة.
إننا نحاول أن نستخدم ما يتماشى مع بيئتنا الاجتماعية والنفسية والثقافية والحضارية أكثر من سواه من مصطلحات وعبارات وافدة قد تكون جامدة وغير ملائمة إلى حد انتاج دورة نفسية ودورة اجتماعية غير صحية، مخلفة لهشاشة موجودة قبلا وأصلا أو أعراض أمراض أو حتى أمراض غير محمودة العواقب بالمعاني السيكولوجية والسوسيولوجية.
لم يعد من الممكن أبدا بعد تفويت فرص العزل الإجباري الجذري والمبدئي للمصابين والمصابين المحتملين، مكانيا وزمانيا كإجراء طبي حربي في حالة حرب، لم يعد من الممكن نقاش تداعيات الوباء بتساهل صوت المعركة، الذي يعلو كل صوت.
ولم يعد من الممكن قبول كلفة المرور إلى الحظر العام، دون عزل إجباري للمذكورين والمعنيين معهم بكل ذلك، وخاصة طواقم الصحة والغذاء والأمن العام، احتياطا وتوقيا تحت قهر العدوى، وتحت واجب الإنقاذ وخاصة إنقاذ المحاربين الأماميين، لم يعد كل ذلك ممكنا دون التنبيه إلى أن نشر المفاهيم المستوردة، كما هي بصورة تبعية مقيتة، يضلل ويغطي على الأخطاء، ويعقد الأمور، ولا يكون عاملا مساعدا على الصمود والمقاومة والانتصار. وأكبر مثال على ذلك القول، “حالات وافدة أو مستوردة” (تعويم المسؤولية)، بدل القول عدوى منقولة من الخارج (تحميل مسؤولية في إطار التعامل مع غلق الحدود). ومثال الحجر الصحي الذاتي والمنزلي (المستحيل في الغالب في ثقافتنا من ناحية الطوعية ومن ناحية الظروف الاجتماعية داخل العائلات والبيوت والمساكن، مع غياب الطابع الالزامي الوجوبي أو القسري في الوعي العام، وبالتالي تحويل هذا المفهوم إلى حاضنة وبؤر للعدوى بين الناس)، بدل الانعزال الفردي والعزل الإجباري الانفرادي والجماعي، وهي عبارات قاسية حقا، ولكنها العبارات الصحيحة في حالة الحرب، إذا أردنا يقظة وقائية ووعيا حقيقيا بالمخاطر واستباقا جديا لا لحاقيا وبعديا. هذا علاوة على عزل مستشفيات خاصة بكوفيد تسعة عشر، وتامين كبار السن والمرضى وفاقدي السند الصحي والاجتماعي، وعزل المناطق التي تظهر فيها بؤر، وتأمين مناطق أمان استراتيجية خالية من الفيروس لمهمات متقدمة من المواجهة.
لماذا الهجر الجماعي والاعتزال الاجتماعي بدل التباعد الاجتماعي؟
لأنه لا يمكن النجاح في الحد من نقل العدوى ومن خلق بؤر كورونية، دون الإيمان بمنطق الهجر ومعناه العميق، وهو التوجه الباطني عند كل منا، ليس فقط بعدم الخروج وعدم التنقل وعدم المشاركة في التجمعات العامة، وإنما الهجرة الجماعية أو الهجران الجماعي المتزامن في نفس الوقت، من كل الناس لكل الناس، نظرا إلى أن طبيعة الاختلاط الاجتماعي عندنا، مازالت لم تتغير مقارنة مع الأعراف والعادات المعروفة.
إننا نلاحظ كما يلاحظ الجميع وبشكل يومي، هذه المظاهر في العائلات وفي الأحياء وفي المتاجر ، وبين الأصدقاء والجيران والمجموعات التي تمارس نشاطات مختلفة مع بعضها البعض. هذا ضروري وحياتي ويجب أن نلتزم به بقطع النظر عن مثالية بلوغ ذلك تماما وعن واقعية عدم بلوغه تماما.
هذه الهجرة ليست فردانية ولا نفورا، وإنما هي حماية وضمانة لاستمرارية حياة المجتمع لا أكثر ولا أقل. وأمل جماعي في أن نعود للحياة المجتمعية العامة يوما بشكل طبيعي، دون أن نجد أنها اختلت تماما أو نقصت أو اضطربت تماما، أو نالها ما نالها من الفقد والفقدان. هاهنا نتحدث عن مفهوم لزوم المنازل.
كيف يكون الاعتزال الاجتماعي؟
يكون بالابتعاد التام عن كل مظاهر الإحتكاك ببقية الناس فيما أبعد مما يسمى التباعد الاجتماعي، الذي لم يعد يجدي نفعا لا بمعنى أخذ مسافة صغيرة ولا بمعنى إنهاء مظاهر التجمعات البشرية… الخ. ولهذا يكون مطلب الانعزال الفردي، أو طلب العزل الإجباري طوعيا وعاما وحياتيا، حتى يضطر غير الشاعر بضرورة الهجر الجماعي إلى قبول الاعتزال من الطرف المقابل.
نحن نحتاج أكثر فأكثر إلى عقلنة وأخلقة العواطق الإنسانية الجماعية والحاجات والرغبات الاجتماعية، وتوجيهها توجيها صحيا وطبيا. ويمكننا هنا أن نستعين بمقولات البيو – إيطيقا الكبرى والعامة في هذا الصدد.
فالتفكير في كل الناس أسلم لنا وللناس، من أن نفكر في أنفسنا وفي بعض الناس.
أما على الصعيد الاقتصادي- الاجتماعي فعلى بلداننا العربية أن تحقق انتقالا تنمويا شاملا في جانب الديمقراطية التنموية التوزيعية العادلة ومن جانب ارساء عقد حياة تنموي يتأسس على حفظ وتنمية الصحة والنقل والتعليم والبيئة يكثف ويلخص كل أطروحات التضامن والتبرع والضريبة الاستثنائية والضريبة التصاعدية…. الخ. ويصهرها في هذا العقد الذي يستلزم تشريع قوانين تلزم المؤسسات الكبرى التجارية والصناعية والمالية والخدماتية العامة والخاصة، بما يمكن أن نسميه مساهمة الواجب الوطني التنموي، لحفظ وتنمية الحياة في حدود نسب مئوية معقولة ومدروسة على الأرباح السنوية، تقتطع للقطاعات الأربعة المذكورة، ضمن خطط وطنية تنموية تحدد مجال ومهام عقد الحياة.
أما المؤسسات المتوسطة العامة والخاصة فنسب مئوية أقل على الصحة والنقل مثلا. وأما المؤسسات الصغرى وعموم الموظفين فنسب مئوية أقل أيضا للتعليم على سبيل المثال. وعلى صعيد آخر، على دولنا ان تعد خططا وطنية لاطفاء الديون الخارجية الكبرى (مع صندوق النقد الدولي تحديدا) عن طريق صفقات استثمار مباشر في مشاريع كبرى مع البلدان التي تقبل بذلك في إطار استراتيجية الاتجاه شرقا، ولمدد زمنية محددة، حسب المشروع وبعد عدد من السنوات، يتخلى البلد المستثمر عن المشروع لفائدة البلد المضيف، بعد أن تحصل الفائدة المالية والاقتصادية، وتنقل التكنولوجيا على أن تكون هذه المشاريع مفيدة حسب حاجات كل بلد، وخاصة في البنى التحتية والطاقات، على أن تصرف أوطاننا نظرها إلى التركيز على الفلاحة والصناعة لتأمين الاكتفاء الذاتي، وتغطية ضرورات الصحة والتعليم والنقل والبيئة، بما يليق بما تكبدته شعوبنا لعقود وبما يليق بالحياة اللائقة والنبيلة والرفيعة.
أستاذ جامعي، وعضو اللجنة المركزية للتيار الشعبي