خبير استراتيجي لمركز كارنجي: تونس قد تغرق في الفوضى بسبب “المستنقع” الليبي..
تونس ــ الرأي الجديد (مواقع إلكترونية)
يطرح جلال حرشاوي، الباحث في مركز “كارنجي”، المضاعفات الإقليمية الناجمة عن الحرب الدائرة بالوكالة في ليبيا على دول شمال أفريقيا.
ويستبعد حرشاوي أن تندلع أي مواجهة مباشرة بين دول أجنبية هناك، مشيرا إلى أنّه سيكون معظم القتلى من الليبيين وليس من الوسطاء الأجانب. وأضاف قد ينتهي المطاف بدولة مثل تونس، مثلاً، “بأن تغرق في لُجج الفوضى واللااستقرار هذا العام”.
جلال حرشاوي باحث في وحدة الأبحاث حول النزاعات في معهد كلينغن دايل للعلاقات الدولية في لاهاي. يركّز عمله على ليبيا، ولاسيما المشهد الأمني في البلاد والاقتصاد السياسي. حرشاوي حائز على ماجستير في العلوم الجيوسياسية من جامعة باريس. له مؤلفات عديدة حول السياسات الخارجية، والوضع في ليبيا، وغيرها..
وفي هذا الحوار بشأن الوضع في ليبيا، والخيارات المتاحة أمام حكومة الوفاق الوطني الليبية، ودوافع الجهات الفاعلة الأساسية المنخرطة في النزاع الليبي، يتحدث الرجل كما يلي:
ـــ ما السبب الرئيسي الذي دفع حكومة فايز السراج إلى إبرام تحالف عسكري مع تركيا؟
** جلال حرشاوي: الدعم العسكري التركي لحكومة الوفاق الوطني التي تحظى باعتراف دولي، ليس نبأ جديداً. ففي النصف الثاني من العام 2014، بدأت أنقرة بتوفير الدعم العسكري لمناصري الإسلام السياسي والجهات الثورية في غرب ليبيا، ولاسيما في مصراتة.
صحيحٌ أن شحنات الأسلحة إلى ليبيا آنذاك لا يمكن أن تقارن مع الكميات الهائلة التي تتدفّق على البلاد هذه الأيام، بيد أنها كانت موجودة خاصة خلال الحرب التي شهدتها بنغازي في فترة 2014-2017. وهكذا، وفي خطوة شكّلت انتهاكاً لحظر الأسلحة الذي فرضته الأمم المتحدة، تدفقت الذخائر والأسلحة من تركيا إلى مصراتة، ثم إلى المجموعات الإسلامية التي تحارب الائتلاف المسلّح التابع للمشير خليفة حفتر في بنغازي.
وحتى بعد سقوط بنغازي في أيدي قوات حفتر في أواخر العام 2017، تواصل التدخل التركي. ففي كانون الثاني/يناير 2018 ، على سبيل المثال، ضبطت اليونان سفينة أندروميدا التي كانت ترفع العلم التانزاني مُتّجهةً من تركيا إلى مصراتة، ومُحمّلَةً بـ29 حاوية من المتفجرات والصواعق.
يشير كل ذلك إلى أن أنقرة كانت تقدّم الدعم العسكري خلسةً إلى المجموعات المناهضة لحفتر منذ أكثر من نصف عقد. وعلى الرغم من أن هذه المساعدة غير المشروعة لم تتوقف أبداً، إلا أنها خفّت بشكل كبير على مدى العامين الأخيرين قبل الهجوم الذي شنّه حفتر على طرابلس في نيسان/أبريل 2019. فهذا الهجوم العام الماضي أعاد إحياء التدخل التركي على نحو كبير. لا بل كان الأمر أكثر من مجرّد إعادة إحياء: ففي الفترة بين أيار/مايو وتشرين الأول/أكتوبر 2019، أرسلت تركيا ما مجموعه 20 طائرة حربية مسيّرة إلى إقليم طرابلس، مع حوالى 60 ضابطاً تركياً لتشغيلها.
لكن، ولأسباب عدة، توقفت المهمة السرية التركية في ليبيا لأسابيع عدة، ثم استؤنفت في كانون الأول/ديسمبر. إضافةً إلى هذه العملية السرية، يحاول الرئيس التركي رجب طيب أردوغان اليوم إرساء وجود عسكري رسمي في طرابلس.
ـــ ماذا كانت دوافع تركيا للقيام بذلك؟
** حرشاوي: يُعزى دعم تركيا للفصائل المناهضة لحفتر في إقليم طرابلس إلى أسباب أساسية ثلاثة هي: التجارة، وقضايا متعلقة بالملاحة، والإيديولوجيا.. حتى قبل العام 2011، كانت نسبة كبيرة تبلغ 25 في المئة من المغتربين الأتراك المنتشرين في العالم العربي يعيشون ويعملون في ليبيا.
وفي الوقت الراهن، تتجاوز قيمة العقود التجارية التركية العالقة في ليبيا 18 مليار دولار، ما يعني أن ثمة العديد من مشاريع البناء والبنى التحتية والخدمات التي لن تطبَّق وتُغطّى كلفتها في حال أسقط حفتر حكومة الوفاق الوطني وتسلّم سُدة الحكم. واقع الحال أن الرؤية الإقصائية للفصيل التابع لحفتر ورعاته الإماراتيين تعني أنه سيتم نبذ تركيا كشريك تجاري. وهذا ما لا تريده أنقرة.
على صعيد الملاحة، الدافع للانخراط التركي في ليبيا متعلّق بالمياه الإقليمية في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط. ونظراً إلى أن اليونان تملك حوالى 3000 جزيرة في بحر إيجة، لا يمكن إطلاقاً تطبيق الاتفاقيات البحرية في تلك المنطقة. وبالتالي، ينبغي على تركيا واليونان إبرام تسوية خارجة عن الاتفاقيات التقليدية. في هذا السياق، أنقرة مهتمة باستئناف محادثاتها المتوقفة منذ فترة طويلة مع اليونان. كذلك، تريد تركيا الدفاع عن فهمها الخاص لاتفاقيات المياه الإقليمية.
تُضاف إلى مسألة بحر إيجة الخلافات المرتبطة بالمياه الإقليمية حول قبرص– هذه الدولة المنقسمة على نفسها، حيث المنطقة الشمالية خاضعة إلى سيطرة تركيا التي احتلّتها في العام 1974 وتعتبرها دولة مستقلة. اكتُشفت كميات هائلة من الغاز الطبيعي في المنطقة الشرقية من البحر الأبيض المتوسط على مدى الأعوام السبعة الماضية تقريباً، الأمر الذي عزّز أواصر التضامن بين مصر وإسرائيل وقبرص واليونان، إضافةً إلى فرنسا، وإلى حدٍّ ما إيطاليا – فاتّحدت كل هذه الدول ضد تركيا. هذا الاتّساق الجيوسياسي قوّض المصالح التركية المتعلّقة بالطاقة ضمن هذه المياه الإقليمية.
في هذا السياق، تشعر أنقرة بأن عليها الحفاظ على بقاء حكومة الوفاق الوطني في طرابلس، وهي الحكومة الوحيدة القريبة من تركيا في المنطقة من وجهة نظر مِلاحية. يشرح ذلك سبب إصرار أنقرة منذ تشرين الأول/أكتوبر 2018على أن توقّع حكومة الوفاق الوطني اتفاقية إقامة منطقة اقتصادية خالصة، عبر إنشاء ممر بحري يصل بين غرب تركيا وشرق ليبيا. وبحلول أواخر تشرين الثاني/نوفمبر 2019، شعرت حكومة الوفاق الوطني باليأس تحت وطأة الضغوط العسكرية التي تواجهها، وأذعنت إلى المطالب التركية بإبرام اتفاقية حول المجال البحري. في المقابل، واصلت أنقرة تزويد مصراتة وطرابلس بالأسلحة وسائر المساعدات العسكرية.
ـــ كيف يلعب الحافز الثالث، الإيديولوجيا، دوره؟
** حرشاوي: من منظور إيديولوجي، يشكّل صمود أنصار الإسلام السياسي في طرابلس قيمة كبيرة بالنسبة إلى أردوغان وداعميه. ويمثّل الإسلام السياسي المعتدل الذي يتمتّع بدرجة معينة من النفوذ في بلد ثري من شمال أفريقيا رمزاً مهماً. لا شكّ في أن أوجه العيوب تنتاب حكومة الوفاق الوطني إلى حدّ كبير ويستشري فيها الفساد. ومع ذلك، فهي عبارة عن منظومة تعددية يتعايش فيها الإخوان المسلمون مع السياسيين غير الإسلاميين. لهذا السبب، تمثّل الفصائل الموالية لأردوغان في طرابلس بطريقة ما شكلاً شعبوياً من السياسة التشاركية. من جهتها، تلتزم الإمارات والسعودية ومصر باستئصال هذا النوع من الحوكمة، وأي شكل من أشكال التعددية، من العالم العربي السنّي. فأنظمتها تفضّل شكلاً صارماً من الديكتاتورية.
إذا ما قارنا النموذج التركي بالدنمرك أو كندا، نجد أنه سلطوي بامتياز. لكن من وجهة نظر الرياض أو أبو ظبي، يترك النموذج التركي مجالاً كبيراً أمام الديناميكيات التصاعدية (من أسفل إلى أعلى)، ويمنح قدراً زائداً عن اللزوم من الحرية لمبادرات المواطن. صيغة أردوغان الخاصة من السلطوية شعبوية بطبيعتها، لكن الهامش الطفيف من المرونة التي تمثّل يشكّل تهديداً سياسياً بالنسبة إلى العديد من الأنظمة في العالم السنّي.
في ظل هذا الاشتباك بين شكلين من السلطوية في دول الشرق الأوسط ذات الغالبية السنّية، تُطلق مساعدة أردوغان الناجحة لحكومة الوفاق الوطني في تحقيق الصمود بوجه الهجمات، رسالة سياسية قوية اللهجة إلى القاعدة المؤيّدة لأنقرة في المغرب وتونس والجزائر والصومال والسودان والعديد من الدول الأخرى في جميع أنحاء المنطقة.د ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد يرى أن ذلك غير مقبول، لأنه يشكّل تهديداً لنموذجه المفضّل من الحوكمة. علاوةً على ذلك، قد تشكّل هالة أردوغان الإيديولوجية الأساس الذي سترتكز عليه تركيا لإنشاء مجال من النفوذ الجيوسياسي على مدى سنوات. وتسعى أبو ظبي جاهدةً للحيلولة دون تحقق هكذا سيناريو.
ـــ ما أهمية السياسة النفطية بالنسبة إلى الطرف الليبي في العلاقة الليبية- التركية؟
** حرشاوي: دعني أشير في البداية إلى أن القائد الليبي الراحل معمر القذافي كان دعم غزو أنقرة لقبرص في العام 1974، وفعل ذلك في الدرجة الأولى من خلال تزويد تركيا بالنفط خلال الفترة التي لم تكن فيها أنقرة تثق لا بإيران ولا بالسعودية، ولا بالطبع بالاتحاد السوفياتي. واليوم، نجد الديناميكيات متشابهة نوعاً ما. فتركيا الآن تشتري كميات ضئيلة جداً من النفط من ليبيا. مع ذلك، سيكون من دواعي سرورها شراء المزيد من أجل تعزيز استقلاليتها في مجال الطاقة، بخاصةٍ أنها تصد ر سلعاً تجارية تتجاوز قيمتها المليار دولار سنوياً إلى ليبيا. وفي حال نجحت في إحداث تحوّل في جزء من غرب ليبيا والتأكد بطريقة ما من صمود الحكومة الصديقة لتركيا هناك، سيتمثّل السيناريو الأكثر ترجيحاً بأن تتمكّن تركيا من استيراد كميات أكبر من النفط الخام من ليبيا خلال السنوات المقبلة.
ـــ ما السيناريو الأكثر ترجيحاً بالنسبة إلى السراج، في الوقت الذي يزداد فيه الوضع الليبي تعقيداً وخطورة؟
** حرشاوي: تُعتبر براغماتية الرئيس فلاديمير بوتين المكيافيلية أفضل أمل للسراج في هذه المرحلة. فالروس منخرطون في الحرب الأهلية الليبية منذ العام 2015، لكن حتى الآن لم يستثمروا فيها سوى القليل نسبياً. مع ذلك، ومن منظور عسكري، تمتلك موسكو بعض النفوذ الآخذ في التنامي بفضل واقع أن تحالف حفتر المسلّح يفتقر إلى القوة على الأرض، على الرغم من الدعم الجوي الهائل الذي يحظى به من الإمارات. السلطات في موسكو تدرك تمام الإدراك هذا الضعف، وترى في خليفة حفتر، الذي يُفترض أنه “الرجل القوي”، قائداً يتخبط منذ أكثر من تسعة أشهر خبط عشواء وهو يحاول مجرد الولوج إلى وسط طرابلس، من دون أن تتكلل محاولاته بالنجاح حتى الآن. وخلافاً للإماراتيين أو الفرنسيين، يعلم الروس أن سنوات حرب المدن ستكون ضرورية حتى ولو تمكّن جيش حفتر من الدخول إلى وسط طرابلس وحتى لو انهارت حكومة الوفاق الوطني غداً.
قد يقرّر الروس زيادة دعمهم لحفتر من خلال إرسال المزيد من المرتزقة أو غير ذلك من الوسائل.
لكن، في الوقت الراهن، يمتلك الكرملين خيار تقليص حجم الدعم الروسي لحفتر بهدوء. وإذا ما حصل ذلك، من المرجّح أن تتمكّن موسكو من توطيد شراكتها مع السلطات الليبية في شرق ليبيا، وتتأقلم في الوقت نفسه مع الوجود التركي في غرب ليبيا الداعم لحكومة طرابلس المُعترف بها دولياً. ويُعتبر هذا أحد السيناريوهات المحتملة، وذلك في حال تمكّنت حكومة السراج، أو أي شيء مشابه لها، من الصمود في طرابلس.
ـــ هل من المرجّح أن تتحوّل التوترات في ليبيا إلى حرب إقليمية بالوكالة أو حتى حرب إقليمية؟
** حرشاوي: الحرب الإقليمية بالوكالة دائرة أساساً. ففضلاً عن هذه الديناميكيات بالوكالة، تتدخّل الدول الأجنبية بشكل مباشر في ليبيا. أما سبب عدم إدراكنا لذلك فهو التصوّر المشوّه الناجم عن وجهات النظر المسيّسة بشدّة. في الواقع، يعتقد الدبلوماسيون الأميركيون والفرنسيون أنه لا يجب أبداً الإتيان على ذكر التدخل العسكري الإماراتي الشامل في منطقة طرابلس خلال الأشهر التسعة الماضية. فمعظم الدول الغربية تخشى عزل دولة سنّية عربية تُعتبر منضبطة وديناميكية ومتمكّنة عسكرياً ومستعدة لإنفاق الأموال. هذه النقطة أثّرت على الطريقة التي غطّت بها وسائل الإعلام الحرب على طرابلس منذ نيسان/أبريل 2019، وهو السبب الأساسي وراء الوهم الذي نصدّقه بأن الحرب بالوكالة اندلعت الآن فقط بعد أن أصبح صوت تركيا يصدح أكثر.
ـــ هل يمكن أن نتوقّع حرباً مباشرة بين قوى إقليمية أو عالمية في ليبيا؟
** حرشاوي: كنت سأجيب عن هذا السؤال: “لا، للأسف”: من المستبعد أن تندلع أي مواجهة مباشرة بين دول أجنبية هناك. سيكون معظم القتلى من الليبيين وليس من الوسطاء الأجانب. وقد ينتهي المطاف بدولة مثل تونس، مثلاً، بأن تغرق في لُجج الفوضى واللااستقرار هذا العام.