استقطاب سياسي حاد في العراق.. وشبح “فراغ دستوري”
بغداد ــ الرأي الجديد (وكالات ومواقع)
تتصاعد حدة الأزمة العراقية في ظل خلافات عميقة بين القوى السياسية إزاء مطالب المحتجين، التي تتركز في محاسبة النخبة السياسية الحاكمة منذ عام 2003، على خلفية تهم بالفساد المالي والسياسي والتبعية للخارج، وسط مخاوف من فراغ دستوري.
ومنذ أكثر من شهرين، يعتصم آلاف المحتجين في ساحات عامة بمدن وبلدات وسط وجنوب العراق، على رأسها العاصمة بغداد، وينضم إليهم آلاف آخرون في ساعات المساء، وسط محاولات قمع متكررة، أسفرت عن مقتل وإصابة المئات، واغتيالات لناشطين، دون ظهور بوادر لتراجع الحراك.
المطالب الاحتجاجية
تتسم الاحتجاجات العراقية بأنها بدأت بعفوية فاجأت الطبقة السياسية، دون أن تكون لها قيادات واضحة.
في البداية، طالب المحتجون بتوفير فرص عمل، وتحسين الخدمات العامة، ومحاربة الفساد المستشري، ومع الوقت، توسعت الاحتجاجات، خاصة في بغداد ومحافظات الوسط والجنوب ذات الأكثرية الشيعية.
ومع سقوط قتلى وجرحى بين المحتجين، ارتفعت مطالبهم إلى رحيل حكومة عادل عبد المهدي وكل الطبقة السياسية الحاكمة منذ الإطاحة بنظام صدام حسين.
وأجبر المحتجون البرلمان على قبول استقالة حكومة عبد المهدي، في الأول من كانون الأول/ ديسمبر الجاري، بعد أكثر من عام على توليها السلطة، في تشرين أول/ أكتوبر 2018.
ويطالب المحتجون باختيار رئيس وزراء جديد مستقل ونزيه لم يتول من قبل أية مناصب رفيعة في الدولة، وبعيدا عن التبعية للخارج، من أجل تشكيل حكومة تكنوقراط مؤقتة (خبراء مستقلين) تمهد لإجراء انتخابات نيابية مبكرة.
كما أنهم يطالبون بتشريع قانون يساعد في صعود المستقلين والكتل الصغيرة، عبر تقسيم المحافظة الواحدة إلى دوائر انتخابية متعددة، واعتماد الاقتراع الفردي، بدلًا من القوائم، إضافة إلى إصلاح القوانين الخاصة بالانتخابات، وبالفعل أقر مجلس النواب (البرلمان) مشروع قانون مفوضية الانتخابات، وبموجبه سيتولى قضاة مستقلون إدارة العمليات الانتخابية.
القوى الداعمة للمحتجين
يعد تحالف “سائرون” (أغلب مكوناته شيعية)، المدعوم من زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، من أبرز الداعمين لمطالب المحتجين.
وتنازل التحالف عن حقه الدستوري في ترشيح رئيس للحكومة المقبلة، باعتباره أكبر كتلة برلمانية (54 نائبا من أصل 329)، ليترك للمتظاهرين حرية اختيار مرشح للمنصب.
ويدفع التحالف باتجاه تشريع قانون للانتخابات يتوافق مع مطالب المتظاهرين، ويندد بقمع المحتجين واغتيال نشطاء، ويطالب بمحاسبة المسؤولين، ويصف حكومة تصريف الأعمال، برئاسة عبد المهدي، بأنها “حكومة قاتلة”.
ومن الداعمين أيضا لمطالب المحتجين، ائتلاف “النصر” (أغلب مكوناته شيعية)، ثالث أكبر كتلة برلمانية (42 نائبا)، بزعامة رئيس الوزراء السابق، حيدر العبادي (2014- 2019).
ومنذ بدء الأزمة، طرح الائتلاف، مرارًا، خارطة طريق تنطلق من تشكيل حكومة مستقلة مؤقتة، تبدأ بمحاسبة الضالعين في قتل المتظاهرين، وتنتهي بالإعداد لانتخابات مبكرة.
ويحظى المتظاهرون بدعم الكتل التي يشكل السنة غالبيتها، ومن أبرزها ائتلاف “الوطنية” (21 نائبا)، بزعامة إياد علاوي، وتحالف “القرار السياسي” (11 نائبا).
من يقف ضدّ المحتجين؟
لم تكشف أي قوة سياسية في العلن عن معارضتها لمطالب المحتجين، لكن مواقف بعضها توحي بأنها لن تتنازل عن نفوذها بسهولة.
على رأس هذه القوى كتلتان شيعيتان مقربتان من إيران، وهما ائتلاف “دولة القانون” (رابع أكبر كتلة بـ26 نائبا) بزعامة رئيس الوزراء الأسبق، نوري المالكي (2006- 2014)، وائتلاف “الفتح” (ثاني أكبر كتلة بـ47 نائبا)، ويتكون من أذرع سياسية لفصائل “الحشد الشعبي”، بزعامة هادي العامري.
ويسعى الائتلافان إلى تقديم النائب في البرلمان، محمد شياع السوداني، كمرشح لرئاسة الحكومة المقبلة.
وقدم السوداني، الجمعة الماضي، استقالته من حزب “الدعوة”، بزعامة المالكي، في خطوة يبدو أنه يراد منها الالتفاف على مطلب المتظاهرين، وتقديمه كمرشح مستقل.
وعلى مدى الأيام الماضية، رفع متظاهرون في أرجاء العراق لافتات مكتوب عليها “مستقل لا مستقيل”، في إشارة إلى رفضهم ترشيح السوداني.
والسوداني نائب في البرلمان الحالي، وكان وزيرا للعمل والشؤون الاجتماعية بحكومة العبادي، ووزيرا لحقوق الإنسان في حكومة المالكي الثانية (2010- 2014)، ومحافظًا لبيسان (جنوبا) عامي 2009 و2010.
ويبدو أن التحالف السني الأكبر، وهو “تحالف القوى العراقية” (40 نائبا)، بزعامة رئيس البرلمان، محمد الحلبوسي، يسير في فلك ائتلافي المالكي والعامري.
وواجه الحلبوسي، في أكثر من مناسبة، اتهامات بـ”المماطلة” في إقرار مشاريع قوانين إصلاحية يطالب بها المحتجون، رغم أنه يقول علانية إنه يدعم مطالبهم.
الحكومة المقبلة.. والمهلة الدستورية
في ظل تلك الانقسامات، لا يزال الغموض يكتنف شكل الحكومة المقبلة.
ويدعو المحتجون والكتل السياسية المؤيدة لمطالبهم إلى تشكيل حكومة مؤقتة تحقق في عمليات قتل المحتجين وتقدم الضالعين فيها إلى القضاء، بجانب التحضير لانتخابات مبكرة.
ولم يصدر من الطرف المقابل ما يوحي بموافقته على هذا الطرح، مع تبقي نحو ثلاث سنوات من عمر الدورة التشريعية الحالية.
يمنح الدستور رئيس الجمهورية مهلة 15 يوما من تاريخ قبول استقالة رئيس الوزراء لتكليف رئيس وزراء جديد.
وانتهت هذه المهلة الاثنين الماضي، لكن رئاسة الجمهورية قالت إنها تسلمت قرار البرلمان بقبول استقالة عبد المهدي في 4 كانون الثاني/ ديسمبر الجاري، أي إن المهلة سارية حتى الخميس.
وحتى الآن، لا توجد بوادر انفراج في الأزمة، مع تباين المواقف بشأن المرشح لقيادة الحكومة وطريقة تشكيلها وعملها، وهو ما قد يعمّق الأزمة، ويدفع العراق نحو حالة فراغ دستوري لا يعالجها الدستور.
وحينها، يستمر عبد المهدي رئيسا لحكومة تصريف الأعمال لحين تشكيل حكومة جديدة، مهما طالت المدة.