شواهد متنوعة: كيف تصاعدت اتهامات “جرائم الحرب” في المنطقة العربية؟
عواصم ــ الرأي الجديد
ما زالت الاتهامات بشأن جرائم الحرب التي ارتكبتها ولازالت ترتكبها أطراف مختلفة، سواء كانت نظم سياسية أو ميلشيات مسلحة أو قوى إقليمية في المنطقة العربية، تتواصل خلال الفترة الحالية، وهو ما عكسته جملة من الشواهد، التي يأتي في مقدمتها توافر أدلة على جرائم حرب ارتكبتها ميلشيات مسلحة مدعومة من تركيا ضد المقاتلين الأكراد في شمال سوريا في إطار عملية “نبع السلام” وخاصة استهداف المدنيين والتطهير العرقي والتهجير القسري للأكراد، واعتراض السلطات الليبية في طرابلس على محاكمة سيف الإسلام القذافي أمام المحكمة الجنائية الدولية لأنها تولت التحقيق في الاتهامات الموجهة له، واستمرار ميلشيا المتمردين الحوثيين في تجنيد الأطفال للزج بهم في ساحات القتال، لتعويض النقص الحادث في صفوف قواتهم، وتوعد ميلشيات “الدفاع الشعبي” بإشعال حريق في جميع أنحاء السودان إذا سلمت السلطات الرئيس السابق عمر البشير للمحكمة الجنائية الدولية لاتهامه بارتكاب جرائم حرب.
نظام روما:
تشير المادة “8” من نظام روما للمحكمة الجنائية الدولية إلى أن جرائم الحرب هى “الانتهاكات الخطيرة للقوانين والأعراف السارية على المنازعات الدولية المسلحة في النطاق الثابت للقانون الدولي”. وتبعاً لهذا التعريف، يمكن القول بأن أطرافاًَ عدة في المنطقة تورطت في ارتكاب جملة من هذه الجرائم كالتهجير القسري للمواطنين والتجويع المتعمد للمناطق المناوئة وقصف المدنيين واستخدام الأسلحة المحرمة دولياً وتوظيف الأطفال في المعارك كجنود أو دروع بشرية.
وتعكس جملة من التفاعلات التي شهدتها المنطقة العربية، خلال الثُلث الأخير من عام 2019، تصاعد الاتهامات بشأن ارتكاب جرائم حرب في دول مختلفة، وذلك على النحو التالي:
“نبع الدم”:
1- توافر أدلة على جرائم حرب ارتكبتها ميلشيات مسلحة مدعومة من تركيا ضد المقاتلين الأكراد في شمال شرق سوريا، في إطار عملية “نبع السلام”، التي يمكن أن تكون التسمية الأدق لها “نبع الدم”. فقد نسبت صحيفة “وول ستريت جورنال”، في تقرير لها في 12 نوفمبر الجاري، إلى مسئولين أمريكيين حاليين وسابقين أن قادة عسكريين شاهدوا لقطات لطائرات مُسيّرة تستهدف تجمعات المدنيين خلال هجوم مسلحين مدعومين من أنقرة على المقاتلين الأكراد، على نحو يجعلها أقرب، وفقاً لها، إلى “جرائم حرب محتملة”.
وقال وزير الدفاع الأمريكي مارك إسبر، في حوار مع “سي إن إن” في 21 أكتوبر الفائت: “لقد اطلعنا على التقارير، نحاول أن نراقب الوضع عن كثب، وإذا كانت دقيقة، وأعتقد أنها كذلك، ستعتبر جرائم حرب”، وأضاف: “أعتقد أنه يجب محاسبة المسئولين عن جرائم الحرب وفي كثير من الأحيان فإن الحكومة التركية تتحمل المسئولية”.
وقد تزامنت إثارة هذا الموضوع مع زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان للولايات المتحدة، في 13 نوفمبر الجاري، حيث ساد اتجاه داخل واشنطن بأن القوات التركية سوف ترتكب المزيد من الجرائم إذا لم تتخذ الولايات المتحدة الإجراءات الكفيلة بردعها. وتجدر الإشارة إلى أن ما تقوم به القوات التركية في شمال شرق سوريا ينطبق عليه حرفياً جرائم حرب، بعد التحالف مع الميلشيات المسلحة لمهاجمة المقاتلين الأكراد، واستهداف المدنيين وخاصة النساء والأطفال بشكل متعمد، واستخدام الأسلحة المحرمة دولياً مثل “الفوسفور الأبيض”، فضلاً عن القيام بتطهير عرقي وإحداث تغيير ديموغرافي من خلال إحلال السكان العرب السنة محل الأكراد.
وفي هذا السياق، قرر المكتب الدائم لاتحاد المحامين العرب، خلال اجتماع استثنائي في القاهرة عقده على مدى يومى 26 و27 أكتوبر الفائت، العمل على تحريك دعوى ضد الرئيس أردوغان أمام المحكمة الجنائية الدولية عن جرائم الحرب التي ارتكبها ضد سوريا، والجرائم ضد الإنسانية التي يرتكبها ضد الشعب السوري. وتوازى مع ذلك دعوة المكتب كل الدول العربية لقطع العلاقات الدبلوماسية والتجارية والثقافية مع تركيا، وطرد السفراء الأتراك من العواصم العربية حتى جلاء القوات التركية من شمال سوريا، ومقاطعة البضائع التركية ووقف كافة الرحلات السياحية لتركيا، ووقف التعامل مع جميع الشركات والمؤسسات التركية.
رموز القذافي:
2- تأكيد دفاع سيف الإسلام القذافي (النجل الثاني للرئيس الليبي السابق معمر القذافي)، في 12 نوفمبر الجاري، على عدم أحقية المحكمة الجنائية الدولية في محاكمته، وذلك في مقر المحكمة بلاهاى بحضور فريق الدفاع عنه ووفد من حكومة الوفاق الليبية التي رأسها فايز السراج، حيث وجهت المحكمة لائحة اتهامات لسيف الإسلام بارتكاب جرائم ضد الإنسانية ناجمة عن قمع الثورة الليبية (17 فبراير 2011). واعتبر الفريق المدافع أن “المحاكم الوطنية منبر أفضل للتعامل مع كل القضايا التي يتهم فيها سيف الإسلام، وأن الأولوية يجب أن تعطى للقضاء الوطني”، وأشار إلى أنه “تم اعتقال نجل القذافي والتحقيق معه ومثل أمام المحكمة في ليبيا وبقى في ليبيا أكثر من 4 سنوات”.
وأضاف: “المحاكم الوطنية، كما ورد في ديباجة نظام روما، هى الأفضل للتعامل مع مثل هذه القضايا في ضوء النفاذ الميسر للأدلة من جانب المدعي العام والضحايا، إذ من الأسهل أن تتم الملاحقة على الصعيد الوطني”، وشدد على “واجب الدول الأطراف في نظام روما في محاكمة مواطنيها، وأنه لا يجب للمحكمة الدولية أن تتدخل وألا تستحوذ على القضية من المحاكم الوطنية”، وتابع: “تمت محاكمة سيف الإسلام وإدانته وانتهى الأمر. وهذا هو الموقف الذي نتخذه نحن، وهذه هى المقاربة المنضبطة التي يجب على دائرة الاستئناف أن تتخذها”.
في حين تضغط المحكمة الجنائية الدولية لتسليمه، ويرجح – حسب المعلومات المتوافرة لدى المحكمة- أن يكون سيف الإسلام مقيماً في الزنتان بعد إطلاق سراحه من قبل كتيبة مسلحة في يونيو 2017. فضلاً عن تسليم بعض رموز نظام القذافي المتهمة أيضاً بارتكاب جرائم حرب ومنهم رئيس جهاز الأمن الداخلي السابق التهامي خالد، ومحمود الورفلي القيادي في “لواء الصاعقة” التابع للجيش الوطني. ودعت فاتو بنسودة، المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية، في 7 نوفمبر الجاري، جميع الدول بما فيها ليبيا لتوقيف هؤلاء للاشتباه في ارتكابهم جرائم دولية خطيرة، من ضمنها جرائم حرب وتعذيب، ومعاملة قاسية وجرائم ضد الإنسانية وجرائم أخرى.
جرائم الحوثي:
3- استمرار ميلشيا المتمردين الحوثيين في تجنيد الأطفال للزج بهم في ساحات القتال، لتعويض النقص الحادث في صفوف قواتهم. فقد كشفت تقارير دولية حديثة، أغلبها صادرة عن هيئات تابعة للأمم المتحدة، عن تنامي ظاهرة تجنيد الأطفال فى صفوف المليشيا الحوثية. فعلى سبيل المثال، يشير تقرير للأمم المتحدة إلى أن نسبة تجنيد الأطفال من قبل ميلشيا الحوثيين بلغت 72% من إجمالي عملية تجنيد الأطفال في اليمن.
ولعل التوثيق الميدانى لمئات الحالات يشكل دليل إدانة للميلشيا الحوثية باعتبارها جريمة حرب وفقاً للقانون الدولي الذى يعتبر تجنيد الأطفال دون الخامسة عشرة سواء طوعاً أو كرهاً جريمة حرب. وفي هذا السياق، أقام مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية، في مأرب في 9 نوفمبر الجاري، ندوة توعوية لثلاثين من الآباء والأمهات ممن يخضع أطفالهم لتأهيل نفسي واجتماعي خاصة برفع مستوى الوعى المجتمعي عن تجنيد الأطفال والمخاطر التي تواجه الأطفال في جبهات القتال، إضافة إلى تعريفهم باتفاقيات حقوق الطفل والبرتوكولات الملحقة بها، والمسئولية القانونية إزاء جريمة تجنيد الأطفال، بحسب وكالة الأنباء السعودية.
تسليم البشير:
4- تهديد ميلشيات “الدفاع الشعبي” (التي أسسها الرئيس السوداني السابق عمر البشير خلال فترة حكمه التي امتدت لثلاثة عقود، بحيث استخدمت في حروبه في جنوب السودان قبل انفصاله، وفي أقاليم دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق، باعتبارها قوات رديفة للجيش، ثم تحولت في فترة لاحقة إلى قوة مدافعة عن بقاء النظام)، بإشعال حريق في جميع أنحاء البلاد إذا سلمت السلطات البشير للمحكمة الجنائية الدولية التي تطالب بتسليمه منذ عامى 2009 و2010، لاتهامه بارتكاب جرائم حرب، تشمل الإبادة الجماعية وجرائم ضد الإنسانية وجرائم تصفية عرقية في إقليم دارفور.
فقد شهد إقليم دارفور نزاعاً مسلحاً بين القوات النظامية وثلاث حركات مسلحة رئيسية، تطالب بإنهاء التهميش الذي يعاني منه قاطنو الإقليم، وخلّف القتال أكثر من 300 ألف قتيل، وأدى إلى تشريد أكثر من 2,5 مليون نازح ولاجئ، وفقاً لتقارير دولية عديدة. وهنا، ذكر بيان باسم “مجاهدي الدفاع الشعبي”، في 8 نوفمبر الجاري، أنهم “لا يمانعون من محاكمة البشير داخل السودان، لكنهم سيقاومون تسليمه إلى المحكمة الجنائية الدولية”. كما خاطب البيان من سماهم “شرفاء القوات المسلحة”، بقوله: “إن التاريخ سيكتب إنكم تخاذلتم في حماية قائدكم البشير، إذا ما تمت عملية تسليمه لمحكمة لاهاى”.
ووجه البيان انتقادات حادة للمطالبين بتسليم البشير إلى محكمة لاهاى، واعتبر أنهم “قدموا ملفات كاذبة وشهادات زور للمنظمات الصهيونية”. وهنا تجدر الإشارة إلى أن قوى إعلان الحرية والتغيير – التي قادت الحراك الثوري واقتسمت السلطة مع المجلس العسكري- تطالب بتسليم البشير للمحكمة الجنائية الدولية، لاسيما في حالة حصوله على البراءة من القضاء السوداني، وهو المطلب نفسه الذي تمسك به نازحو وأقارب ضحايا حرب دارفور خلال لقاءهم الأخير برئيس الوزراء عبدالله حمدوك. وقد جددت المحكمة الجنائية طلبها للحكومة الانتقالية بتسليم البشير باعتباره ضرورة، لأن وجوده في السجن يشكل خطورة في رؤيتها.
عملية طويلة:
خلاصة القول، إن ثمة جرائم حرب متعددة ترتكب من جانب أطراف مختلفة سواء كانت جيوش نظامية أو ميلشيات مسلحة أو تنظيمات إرهابية في الإقليم، وفقاً لشواهد متنوعة، دون أن تتوافر الآليات الدولية لمحاسبة مرتكبيها رغم الدعوات المتكررة، وهو ما يشير إلى عملية طويلة للإعداد للمقاضاة لضمان محاكمة المشتبه بهم حال التوصل إلى تسوية للصراعات، في حين يتعذر حدوث ذلك في حالات بعينها، سواء للمحاكمة وفقاً للقوانين المحلية أو لرفض النظم الجديدة تسليم بعض الرموز السابقة.