“النهضة” على رأس الحكم.. المشي وسط “الرمال المتحركة”…
بقلم / صالح عطية
… “وحدهم الأغبياء لا يتطورون”…
كانت هذه العبارة، التي نطق بها رئيس حركة النهضة، راشد الغنوشي، لحظة خروجه من جلسة انتخابه رئيسا للبرلمان، وسط الأسبوع المنقضي، ترجمة لحالة يتقاطع فيها النفسي بالسياسي، البراغماتي بالمبدئي، التكتيكي بالإستراتيجي…
بدا الغنوشي، الذي قضى 40 عاما من حياته بين النضال والسجون والمنافي، وكأنه يقطع مع هذه المرحلة، ليدشّن مرحلة جديدة، هي الانتقال من رئيس الحزب، إلى رئيس السلطة التشريعية في نظام سياسي برلماني، تدار فيه السلطة والصراعات وقيادة الدولة، ضمن أروقة البرلمان، وعلى محكّ مقعده الرئيسي: رئاسة البرلمان.
لأول مرة، منذ ما يعرف باستقلال “الدولة الوطنية”، يصل زعيم حركة إسلامية إلى رئاسة مجلس نواب الشعب، عبر صناديق الاقتراع، ومن خلال آليات ديمقراطية شفافة، تتجاوز النموذج اللبناني (رئيس حزب “أمل” الشيعي، نبيه برّي)، وتقفز على المثال المغربي (قيادة حزب العدالة والتنمية)، اللذين وصلا إلى سدّة البرلمان بآليات مختلفة، وضمن سياقات سياسية ودستورية مغايرة.
لم يستطع الغنوشي، العام 2011، وهو الخارج من انتخابات برلمانية، في انتشاء تام بفوزه المثير، أن ينال من “كعكة الحكم”، وظلّ إلى حدود العام 2019، يدير جزء من السلطة، أو بعضها أو قسما واسعا منها (تختلف التقديرات هنا)، من وراء ستار، رغم أنّ الأغلبية الماسكة بالحكم، كانت بين 2014 و2019، تتألف من الحزب الذي قاد عملية إخراج حركة النهضة من الحكم (نداء تونس)، ضمن كرنفال سياسي غير مسبوق، تخللته احتجاجات واسعة، واغتيالات سياسية، واعتصامات بعشرات الآلاف، كان من نتائجها، ذلك “الحوار الوطني” المزعوم، الذي وقّع ــ سياسيا ــ على هذه المغادرة من الحكم، ضمن أجندة إقليمية ودولية، كانت خرائطها بدأت تتغيّر للتوّ، بفعل المستجدّات المصرية، ولاحقا، الانقلاب التركي الفاشل، والمنعرج الحاصل في ليبيا واليمن، ومؤشرات الحالة السورية المعقدة، بالإضافة إلى المطبخ الغربي، الصهيو ــ أميركي، الذي أدخل ملف “الإسلام السياسي” إلى “غرفة المراجعة” العميقة.
**********
جنحت حركة النهضة عندئذ، إلى تسجيل تراجعات لافتة، عبر “خطوات إلى الخلف”، كان لا بدّ للحركة الإسلامية أن تقوم بها، في إطار تجنّب العاصفة التي قلبت المعادلة، بواسطة الانقلاب العسكري في مصر، والتحالف المصري ــ السعودي ــ الإماراتي، ضدّ ما سمي بــ “الربيع العربي”، بدعم إسرائيلي، وملامسة فرنسية بقماش باريسي، تعوّدت عليه النخب السياسية التونسية، وبدأت حركة النهضة، وزعيمها، راشد الغنوشي، تستشعره بشدّة، وتحرص على هضمه، كمن يبتلع حبّة في مرارة العلقم، بعد سنوات من المواجهة الثقافية والفكرية معه.
لا شكّ أنّ “حركة النهضة”، التي خرجت من الحكومة في العام 2013، ثم دخلتها ثانية سنة 2014، استفادت من “لعبة الحكم”، بحيث تعرفت على ميكانيزماته وموازين القوى فيه، وغرفه المغلقة، و”صراعاته التحتية”، وتشابك العلاقات داخله، وارتباطاته الخارجية، لكنّها دفعت مقابل ذلك، فاتورة باهظة الثمن..
إذ لم يكن تطبيعها مع جزء من المنظومة القديمة، والتنازلات المتتالية التي قدمتها بعنوان “الوفاق” و”التوافق”، لم يكن ذلك ليمرّ صلب الحزب، بشكل ميسّر، بحيث لم يخرج الغنوشي من المؤتمر العاشر لحركته، قبل عامين ونيّف، في أريحية كاملة، بفعل الأصوات المرتفعة التي انتقدت نهجه السياسي، ومنهجيته في إدارة الصراع السياسي مع الطيف الحزبي الحاكم معه، معتبرة أنّ زعيمها، بدأ يتخلى عن مبادئ الحزب ولوحته القيادية..
غير أنّ “الشيخ” كان مثل ذلك الملاكم الذي لا يعبأ ــ أو هكذا يبدو ــ باللكمات الهامشية، ويحرص في المقابل، على “الضربات القاضية”، أو تلك التي تنهي النزال بانتشاء ذاتي، يعمل الرجل على تحويله إلى الرصيد المصرفي للحزب، لقناعته بأنّ التنظيم، هو الإطار الحاضن والمنتج في ذات الوقت لخياراته السياسية، التي كان غالبا ما يحصل على “تزكية” تنظيمية بشأنها، مما يسمى “مؤسسات الحركة”، بصرف النظر عن تقييمنا لها ولدورها..
هكذا استطاع “الشيخ”، أن يطوّع الحزب لنهجه، وأن يجعل من تحالفه أو شراكته مع “نداء تونس”، رقما إضافيا في معادلة صراعه مع رفاقه صلب الحزب، بل إنّه نجح ــ في تقديرنا ــ في نسج خيوط علاقات إقليمية ودولية شديدة الأهمية، ربما بات من خلالها، جزء من ترتيبات جديدة..
يكفي أن يشير المرء هنا، إلى زياراته إلى الصين والهند وإيطاليا وألمانيا، وتردده على المحور التركي القطري، بالإضافة إلى الزيارة التي وصفت بــ “التاريخية” لإحدى معاقل خصومه من اليسار والطيف العلماني بشكل عام، ونعني فرنسا، إلى جانب الولايات المتحدة الأميركية، التي كان يقدّم في مراكز صنع القرار فيها، محاضرات ومقاربات حزبه.. وهي العواصم التي وضعت فيها ترتيبات جديدة لوضع تونسي، تحرص هذه الدول، على اتخاذه “نموذجا” للمنطقة، وقد أبدت استعدادها لدعمه وتسويقه، ومن ثمّ “ترويض” أوضاع إقليمية متعددة على نمطه وسياقه ومكوناته..
**********
غير أنّ هذه التطورات، على إيجابياتها بالنسبة للحركة الإسلامية، على صعيد تطبيعها مع الدولة التي كانت تصارعها على امتداد عدّة عقود، ارتدّت عليها بشكل سلبي، على المستوى الشعبي، حيث بات ينظر إليها، على أنّها الحركة التي أعادت المنظومة القديمة الفاسدة إلى السلطة، وهي التي “أفسدت” الوضع الاجتماعي والاقتصادي والمعيشي للمواطنين، وباتت تتهم، كما اتهم الحزب الحاكم في تونس، منذ “الاستقلال”، بكونها أصبحت تمثّل عبئا على الدولة والمجتمع.. وهو ما يفسّر تراجع محصولها الانتخابي منذ العام 2011، من مليون و400 ألف ناخب، إلى 800 ألف ناخب في 2014، وصولا إلى 550 ألف ناخب في أعقاب الانتخابات الأخيرة.
المفارقة، أنّه رغم هذا التراجع المذهل في عدد الناخبين، ظلت حركة النهضة تقود المشهد، لا بل تدخل السلطة بقوّة، فيصبح زعيمها، راشد الغنوشي، رئيسا للبرلمان، وتكون هي من يعيّن رئيس الحكومة، بقدر معتبر من “الضمانات السياسية”، غير المعلنة، بما يجعلها، على رأس السلطتين التشريعية والتنفيذية، على الرغم من محاولات “الإستئساد”، التي يبديها شركاؤها المحتملين، وخاصة “التيار الديمقراطي” و”حركة الشعب”.
لكنّ هذه “الهيمنة النهضوية”، على الحكم، التي استفادت من ضعف الحالة الحزبية، وتراجع اليسار، وتدهور الجسم الانتخابي للمنظومة القديمة، والصراعات على الزعامة صلب عديد الأحزاب، ستصطدم في الواقع بعدّة تحديات أساسية، أهمها:
**********
ـــ مدى تحقيق منجزات اجتماعية واقتصادية ينتظرها التونسيون بفارغ الصبر، بعد تدهور معيشتهم طيلة السنوات التسع الماضية..
ـــ مدى ضمان “حركة النهضة”، الاستقرار في الحكم، أمام “التعددية البرلمانية الهشّة”، وضعف الحزام البرلماني للحكومة المقبلة، ووجود “الأحزاب الخاسرة” انتخابيا، في مهبّ المعارضة الراديكالية مستقبلا، واحتمال قويّ لانخراط اتحاد الشغل في مسار “معارضة اجتماعية” شديدة، قد تعيد المشهد إلى ما كان عليه الوضع خلال مرحلة “الترويكا”..
ـــ مدى قدرة الحزب الحاكم على إدارة العلاقات، في صيغتها الداخلية، بالمكونات السياسية والاجتماعية، وفي صورتها الخارجية، في علاقة بالشركاء التقليديين للبلاد، أو عبر نسج خيوط علاقات إقليمية ودولية جديدة، قادرة على فتح أفق جديد للحكم والدولة والمجتمع، في مرحلة هي الأكثر تعقيدا في البلاد، والأكثر حساسية خارجيا..
ـــ مدى قدرة زعيم حركة النهضة، على تحقيق ما يمكن أن يقنع به “معارضيه” داخل الحزب، مع اقتراب المؤتمر الحادي عشر، الذي سيكون محددا له ولنهجه وسياسته، ومن ثمّ لبقائه على رأس الحزب، وبالتالي استكمال المدّة النيابية في أريحية تامّة.
**********
بالتأكيد، سيكون الالتقاء، وربما التحالف بين النهضة وحزب “قلب تونس”، الصيغة الموجعة لحركة النهضة، خصوصا في مواجهة شركائها المفترضين (“التيار” و”الشعب”)، وسيتوقف نجاح السلطة التشريعية والتنفيذية على إمكانات وسياقات هذا التحالف، وقدرة الطرفين، على ضمان الاستمرار، على نقيض تجربة (النداء ــ النهضة)، التي انتهت بمخرجات انعكست سلبيا على مسار البلاد برمتها..
ولعلّ هذا ما سيشكّل معضلة حقيقية لحركة النهضة، خصوصا مع رفع الحزب لشعار مكافحة الفساد، في وقت يضع يده في يد “قلب تونس”، الذي كان اتهمه بالفساد، واستفاد من ذلك انتخابيا..
لقد نجحت “النهضة” بشقّ الأنفس في تخطّي لحظة “السقوط الانتخابي”، ووجدت نفسها على رأس السلطة، في مواجهة، تبدو اليوم بشكل خفيّ، وقد تتحوّل إلى مباشرة علنية، مع رئاسة الجمهورية، بحساباتها ورؤيتها وأفقها، التي قد تصطدم بنزوع “النهضة” ورغبتها في قيادة البلاد، بلا منافس، أو حتى مشوّش، مجرّد التشويش..
**********
هل تتطوّر حركة النهضة، باتجاه هذه الاستحقاقات، على تعددها وتنوعها وتفاوت درجة خطورتها، بحيث تتخطّى مرحلة “الغباء” التي تحدّث عنها زعيمها، وتقدّم نموذجا لعلاقة جديدة، بين البراغماتي والمبدئي… التكتيكي والاستراتيجي… ؟؟؟
في السياسة، لا وجود للمعجزات… وحدها ماكينة الحكم، هي المحددة.. والحكم، نتائج بالأساس، لمن يتقن المشي وسط “الرمال المتحرّكة”..