الانتخابات الرئاسية: جاذبية الاستقرار السياسي في انتقال ديمقراطي عسير
بقلم / صالح عطية
توجّه الناخبون التونسيون اليوم، الأحد، إلى مكاتب الاقتراع الموزعة على نحو 5 آلاف مكتب، في 24 محافظة تونسية، لانتخاب رئيس للبلاد، لفترة 5 سنوات قادمة، في ثاني انتخابات رئاسية مباشرة منذ ثورة يناير 2011.
وتجري هذه الانتخابات، قبل أوانها، بسبب وفاة الرئيس الراحل، الباجى قايد السبسي يوم 25 يوليو الماضي بشكل مفاجئ، ما جعل الهيئة المستقلة للانتخابات، تضبط موعد 15 سبتمبر، لإجراء انتخابات سابقة لموعدها الذي كان مقررا يوم 16 نوفمبر 2019، وذلك تنفيذا لبنود الدستور التونسي، الذي يفرض انتخابات رئاسية في غضون 90 يوما، في حال حصول شغور في رئاسة الجمهورية.
وسيكون التونسيون اليوم، على موعد مع صناديق الاقتراع، في هذا البلد الذي يعيش انتقالا ديمقراطيا رصينا وجذّابا، على الصعيد السياسي، رغم الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية التي ظلت تراوح مكانها منذ 8 سنوات، تاريخ الإطاحة بالرئيس السابق، زين العابدين بن علي، في أول شرارة لثورات الربيع العربي، التي امتدّت لاحقا باتجاه ليبيا، ثمّ مصر وسوريا واليمن.
وفي وقت، اتخذت فيه هذه الثورات، مسارات أخرى مختلفة ومعقّدة، نجحت النخب التونسية، في إرساء مشهد سياسي ديمقراطي، بفضل سياسة “التوافق”، التي يقول عنها المراقبون، أنّها جنّب البلاد، ويلات الحركات الارتدادية في باقي ثورات الربيع العربي، وجعلت تونس، نموذجا، يجري الحديث عنه في الشرق والغرب على السواء، كصيغة لديمقراطية ناشئة، تقتات من ظروف البلد الهشّة، التي لا تمتلك إمكانات طبيعية وثروات هائلة، لكنّها تختزن في ذات الوقت، عقولا مستنيرة، منفتحة على العالم، ومستوعبة للتطورات العالمية والكونية، بعقل تونسي، يراعي خصوصية البلد وقدراته وقابليته للتطور، دون أن يخلو ذلك، من تجاذبات حادّة، واستقطاب سياسي وأيديولوجي، وتجاوزات وإخلالات، جعل المشهد السياسي، مفتوحا دائما على احتمالات عديدة..
وسيكون التونسيون اليوم، مع موعد انتخابي متجدد، يستمرون من خلاله، في عملية التأسيس لمسار انطلق ذات 14 يناير 2011، قاطعا مع منظومة سياسية، جثمت على قلوب التونسيين لفترة 60 عاما، وفي كل مسار انتخابي، تتساقط هذه العقود كما أوراق الخريف، فاسحة المجال لبناء جديد، يشيّده التونسيون بصعوبة شديدة، ولكن بثبات أشدّ، رغم محاولات التدخل، الإقليمية والدولية، التي لم تنته إلى الآن، دون أن تكون لها تأثيرات على اتجاه البوصلة التونسية.
حملات دعائية مثيرة
وسيتولى أكثر من 7 ملايين من الناخبين التونسيين المسجّلين في دفاتر الهيئة المستقلة للانتخابات، انتخاب رئيس جديد للبلاد، من بين 26 مرشحا، من كامل الطيف السياسي، بدءا بالتيارات المحسوبة على اليمين، مرورا باليسار الراديكالي، ووصولا عند ما يسمى بــ “العائلة الوسطية الحداثية”، ضمن فسيفساء، قلّ حضورها في المشهد السياسي العربي برمته.
وشهدت قائمة المرشحين الــ 26، غياب مرشح موقوف في قضايا متعلقة بالتهرب الضريبي وغسيل أموال، وآخر فضّل خوض حملته الانتخابية في الخارج، بسبب الدعاوى القضائية المرفوعة ضدّه.
وكان هؤلاء المرشحين، خاضوا على امتداد 12 يوما، حملات دعائية، انتهت في منتصف ليلة أمس الأول، قدّموا خلالها برامجهم ووعودهم الانتخابية للتونسيين، فيما تولى التلفزيون التونسي، تنظيم مناظرات لهم، هي الأولى من نوعها في تاريخ البلاد، كانت فرصة لتعرف الناخب التونسي، عن قرب، على هذه البرامج والمقاربات والوعود الانتخابية، مقدّمة صورة عن مستوى المرشحين، وعن قدرتهم على الإقناع، وقد تم بثها في مختلف القنوات المحلية، التلفزيونية والإذاعية، بمتابعة لأكثر من 3 ملايين مشاهد تونسي في الليلة الواحدة.
وعاشت تونس خلال فترة الحملات الدعائية، أياما لافتة من المهرجانات والتظاهرات الفنية والسياسية، إلى جانب أشكال مختلفة ومبتكرة من الدعاية الانتخابية، ومن طرق التواصل مع الناخبين، وكيفية مخاطبتهم، والتسويق لبرامج المرشحين، كما لو كانت التجربة الديمقراطية التونسية، قديمة تاريخيا، فيما أنّها لا تتجاوز 8 سنوات على خطواتها الأولى.
ولأنّ هذه التجربة حديثة العهد، فقد تخللتها تجاوزات وإخلالات، سواء خلال الحملات الدعائية، من تجاوز لسقف التمويل الذي ضبطته هيئة الانتخابات، أو خلال يوم “الصمت الانتخابي” (أمس)، الذي عرف خرقا من قبل عدد من المرشحين، اضطر هيئة الانتخابات إلى الخروج عن صمتها، والتأكيد على ضرورة التقيّد بالقانون والترتيبات المتخذة، قبل أن تقرر رفع تقارير بهذا الشأن، لمعاقبة متوقعة للمخالفين، وفق تصريح فاروق أبو عسكر، عضو هيئة الانتخابات، لوكالة الأنباء القطرية.
كمّ هائل من الأفكار
وعرفت حملات المرشحين، زخما كبيرا من المقترحات والبدائل والأفكار والتصورات، تعلق مجملها، بالأمن القومي، من حيث السياسة الدفاعية للدولة، والوضع الأمني عموما، بالإضافة إلى السياسة الخارجية، من خلال التطرق إلى العلاقات التونسية مع الخارج، وسط مقاربات مست أسس الدبلوماسية التونسية ومبادءها، على غرار مطالبة بعضهم، فرنسا، بالاعتذار عن سنوات الاستعمار، ومراجعة الاتفاقيات مع الاتحاد الأوروبي، وتعديل الاتفاقيات العسكرية مع الولايات المتحدة الأميركية.
ورغم أنّ صلاحيات رئيس الجمهورية في تونس، محدودة بموجب الدستور وطبيعة النظام السياسي، الذي يميل إلى النظام البرلماني المعدّل، حيث تكون صلاحيات رئيس الحكومة، هي الأبرز، فقد حرص المرشحون على تقديم حلول للمشكلات الاقتصادية والتنموية والاجتماعية المطروحة، طمعا في استقطاب الناخبين، واستمالة أصواتهم، وهو ما جعل تلك البرامج المقدّمة، أشبه ما يكون بمهرجان من المقترحات والحلول، التي قد تحتاج إلى ورشة عمل لتحويلها إلى مادّة للحاكمين الجدد في تونس.
مراقبة الانتخابات
ومن المنتظر، أن يجد الناخبون التونسيون اليوم، حوالي 14 ألف صندوق اقتراع أمامهم، لوضع خيارهم للمرحلة المقبلة، بكل حرية وشفافية، بحضور 1500 عون مراقبة ميدانية، تابعين لهيئة الانتخابات، إلى جانب 4500 مراقب، لرصد التجاوزات الممكنة خلال يوم الاقتراع، بالإضافة إلى أعضاء مكاتب الاقتراع، من الأحزاب والمجتمع المدني.
بالموازاة مع ذلك، استعدّت منظمات محلية وعربية وأوروبية وأميركية، لمراقبة هذه الانتخابات.. فقد خصص الاتحاد العام التونسي للشغل، نحو 5 آلاف مراقب لهذه الانتخابات، وأوفد الاتحاد الأوروبي حوالي 100 ملاحظ، وقررت منظمات أميركية، منها مركز كارتر لمراقبة الانتخابات، المشاركة في هذا الجهد، فيما أعلنت جامعة الدول العربية عن إيفاد عدد من المراقبين، وقدم أمس وفد عن المنظمة العربية لمراقبة ديمقراطية الانتخابات (مقرها الأردن)، لمتابعة سير عمليات الاقتراع والفرز.
ومع أنّ أجواء الشفافية تبدو بارزة للعيان، إلا أنّ ذلك لم يمنع بعض المراقبين، من الإعراب عن مخاوفهم من تسجيل عزوف عن الاقتراع كما حدث خلال الانتخابات البلدية الماضية، على خلفية تآكل الثقة في الطبقة السياسية التونسية، التي فشلت في إيجاد حلول لمشكلات ملايين من التونسيين الذين يعيشون في وضع مزر ومستراب، اقتصاديا واجتماعيا، ولم تتحسن أوضاعهم خلال السنوات الأخيرة بوجه خاص.
حيرة التونسيين
وربما لأول مرة منذ ثورة يناير 2011، يبدو التونسيون، في أشدّ حالات الحيرة، إزاء من سيختارون للتربع على عرش قرطاج لفترة 5 سنوات (2019 ــ 2024)، وسط تداخل غريب بين العائلات السياسية، وفيما بين العائلة السياسية الواحدة، زاد في ضبابية المشهد، وفي حجم التردد الذي ينتاب التونسيين، وهو ما عكسته النتائج الأولية لعملية الاقتراع في أوساط الجالية التونسية بالخارج، التي لم تتجاوز إلى حدود يوم أمس العشرة بالمائة، وهي التعبيرة التي قد تتكرر على المستوى الوطني.
غير أنّ عضو الهيئة المستقلة للانتخابات، عادل البرنصي، قال لوكالة الأنباء القطرية، أنّ الأمر مختلف بين الداخل والخارج، من حيث المطالب، والعلاقة برئاسة الجمهورية، ما يجعل الحصيلة الضعيفة للتصويت في الخارج، مرشحة للزيادة خلال اليوم، الأحد، وفق تقديره.
وفيما يحرص بعض المرشحين للصعود إلى رئاسة الجمهورية، اتخذت بعض الأحزاب، من الترشح إلى “الرئاسية”، نوعا من “التكتيك الانتخابي”، لتنشيط خلاياها في الانتخابات التشريعية، بشكل تكون الانتخابات الرئاسية، “مصعدا انتخابيا” لتحسين الوضع في “التشريعية”، وهو ما يذهب إليه المحلل السياسي، جلال الهمامي، الذي يشير إلى أنّ المشاركة في “الرئاسية”، سبيل لوضع قدم في الانتخابات البرلمانية المقررة في السادس من أكتوبر المقبل، والتي شرع المرشحون من الأحزاب والمستقلين في شنّ حملاتهم الدعائية لها منذ يوم أمس، وفقا لرزنامة الانتخابات.
بحث دائم عن الاستقرار
ومع أنّ هيئة الانتخابات، أعلنت على لسان رئيسها، أنّها ستفصح عن النتائج الأولية للانتخابات الرئاسية، يوم 17 سبتمبر الجاري، أي بعيد يومين على موعد الاقتراع، فإنّ السيناريوهات الممكنة، ترجح الاستقرار في مستوى الحكم، والحفاظ على حدّ أدنى من الاستمرارية في النظام، من أجل أن تستقيم هذه التجربة، وتبدأ في إنتاج ثمارها، وهو ما يدركه التونسيون، الذين يرفضون الحلول القصووية أو الفوضوية، التي تراهن عليها بعض المحاور الإقليمية منذ فترة طويلة، دون أن تتوصل إلى تحقيق ذلك، فيما تحرص الدوائر الغربية، على تثبيت التجربة، التي تتخذ منها مثالا لدول وتجارب في عالمنا العربي، وفق ما يقول مراقبون.